جنون القتل الذي انتقل أمس إلى الساحل السوري يدشن مرحلة جديدة من المذبحة المستمرة منذ خمسة أعوام ونيف، قد تكون أشد سوادا ودموية مما سبق، ويتعين ألا تغيب أهميتها عن الأذهان.
المدنيون الذين استهدفتهم التفجيرات التي أعلن "داعش" مسؤوليته عنها، أو "تجمعات العلويين" وفق لغة بيان تبني الجريمة، دفعوا يوم أمس ثمن استعصاء الحل في سورية وتعمق الأزمة (هنا المصطلح بالمعنى الهيكلي وليس بالصيغة السطحية التي يستخدمها إعلام بشار الأسد) على نحو يبدو غير قابل للعلاج في المستقبل المنظور، بغير قدر كبير من العنف لا تملك أي من الجهات الداخلية والإقليمية المنخرطة في القتال وسائل ممارسته وتحمل تبعاته.
دعونا من مباريات تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن مقتل عشرات المدنيين في جبلة وطرطوس، والشماتة المشينة بإحالة بشر إلى أشلاء وعصف مأكول، وتحميل الضحايا أوزار سياسات النظام الذي يسيطر على مناطقهم، فكل هذه الأقوال لا تفيد سوى في إيضاح عمق الشقاق الأهلي الذي بلغه السوريون.
وربما يكون اسم الجهة المنفذة لجرائم طرطوس وجبلة ثانوي في أهميته ما دامت الأدلة دامغة (وتنشرها الصحف الغربية التي طالبنا قبل أيام أحد قادة محور دمشق – طهران بالاكتفاء بقراءتها للحصول على حقائق الوضع في المنطقة)، على تعاون متعدد المستويات بين نظام بشار الأسد وبين "داعش". لا شيء يمنع- نظريا على الأقل- من ارتقاء التعاون في مجالات تجارة النفط وتسلم وتسليم المناطق بين الطرفين إلى تبادل الخدمات الأمنية والإجرامية. وليس سرا أن ضرب التجمعات البشرية في بلادنا غالبا ما يسفر عن تعزيز إمساك السلطات بعنق المجتمع الذي يبحث، في المقابل، عن المزيد من الحماية والأمن.
وفي معزل عن صحة أو خطأ نظريات المؤامرة وتسمية القاتل، لا ريب في أن تفجيرات الساحل، بتعقيدها وحاجتها إلى إعداد واستطلاع مديدين وإمكانات لوجستية معتبرة، تدل على الرغبة في التوظيف الأمني لهذه المناطق بالقدر ذاته الذي يدل على انسداد العملية السياسية وتعفنها. فبعد ثلاث جولات رسمية من المفاوضات في جنيف، وعدد لا يحصى من اللقاءات الجانبية في كثير من عواصم ومدن العالم، لم تتحرك التسوية شبرا واحدا إلى الأمام. ومهما قيل عن أوراق ونقاشات ومحاور اهتمام، إلا أن الثابت هو أن النظام وجزء من المحور الداعم له، لا يريد حلا سياسيا ويعلق الآمال على كسر المعارضة الباقية خارج منظومة "النصرة" – "داعش" في الميدان لحصر كل شرعية تمثيل السوريين في نفسه.
تصب التفجيرات في هذه الخانة بالضبط. إذ كيف يعقل التفاوض مع مجرمين يستهدفون المدنيين وتلامذة المدارس؟ وهذه فكرة قديمة يكررها المتحدثون باسم النظام في الإعلام وفي قاعات الاجتماعات.
ستعمق جرائم يوم أمس مشاعر الحقد الطائفي المتبادل وتشحن خطاب الخوف والمظلومية بين الأقليات والأكثريات لأعوام مديدة مقبلة. وستزيد زخم الدوران في الحلقة المفرغة من القتل والقتل المضاد واستعراض الأجساد الميتة والمشوهة في الشوارع ودحرجة الرؤوس المقطوعة أو رفعها على الأسنة والأسيجة. ذلك أن الجلاد الأول لا يعدم وسيلة لتحويل كل خصومه إلى جلادين يشبهونه.