ثمانية وستون عاما، ها قد انتصف أيار من جديد، ومع مقدم أيار من كل عام يفيض الشوق والحنين، نتلفت حولنا بإشفاق راجين أن يترفق القدر قليلا وهو يتخطف آخر من تبقوا من رائحة الوطن من أطفال ذلك الزمن الذين غدوا شيوخا طاعنين في السن رحل أكثرهم وقليل من ينتظر.
لو كان التمني مجديا لكانت أمنية الأبناء والأحفاد أن يتوقف الزمان فلا يخطف هؤلاء الشهود الأحياء الذين يمثل بقاؤهم على قيد الحياة منعشا للذاكرة يحميها من آفات تطاول السنين وتباعد الأزمان، ويتصدى لصحراء المدنية والعصرنة الزاحفة بشراسة نحو أجيال المخيمات والشتات غير مبالية بقداسة الذكريات وسمو الارتباط الروحي بالأرض والقرية والشجرة والمفتاح والقيشان.
فلسطين ليست مركز الجغرافيا، لكنها الرمز والروح، فلسطين تختزل مساراتنا صعودا وهبوطا، هي المقياس الدقيق لحالة العرب والمسلمين، حين فقدنا هويتنا وشعورنا بأنفسنا فقدناها، ويوم أن نستيقظ ونسترد شعورنا نستردها، هكذا هي الحياة تقدم لنا رموزا وتلخيصات للمعاني المتفرقة.
في غابر الزمان كانت امتحانا لبني إسرائيل، قيل لهم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، لم يكن بلوغ الغاية يقتضي كثيرا من الجهد والتكلفة، فقط قرار بالإقدام ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون! لكن أنى لمن تشرب العبودية والهوان أن يشرح الله صدره لهذا الفعل اليسير، فكان الخوف والإدبار، وكانت العاقبة الحرمان والتيه في الأرض.
لا أحب التفاصيل التاريخية كثيرا، لكن يعجبني في القرآن عمقه الروحي ورموزه المكثفة، اليوم بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام لم يطرأ تغير جوهري، بنو إسرائيل أو بنو إسماعيل لا يغير شيئاً في جوهر المسألة لأن الله تعالى لا يعبأ بأنسابنا وآبائنا، العبرة بالمعاني الروحية، هذا الخطاب القرآني صالح أيضاً لإعادة توجيهه لبني إسماعيل أن ادخلوا الأرض المقدسة ولا ترتدوا على أدباركم، إن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من خطوة إقدام، وما تأخرنا عن العودة ثمانيةً وستين عاما إلا مؤشر دقيق على الهوان والوهن الذي أصاب الشعور العام في الأمة وقيده بأغلال أعاقت حركتها وشلت مبادرتها.
ماذا تفعل إسرائيل وسط بحر من الأعداء يحيطون بها من كل جانب، كيف نشأت وكيف استمرت؟ هذه هي المأساة التي جسدها ميلاد إسرائيل وبقاؤها، إسرائيل باقية بضعفنا لا بقوتها، الضعف والتشرذم والانهيار العربي الداخلي هو الوقود المغذي لبقائها، العرب ليسوا بحاجة لأن يصبحوا امبراطورية عسكرية ليهزموا الصهاينة، كان كافيا أن يتحولوا لقوة اقتصادية لها مكانة بين الأمم ليمتلكوا كثيرا من أدوات التأثير لصالح فلسطين وأدوات الضغط ضد إسرائيل، كان يكفي أن يتحول العرب إلى كيانات ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتمثل السلطات السياسية فيها التوجهات الحقيقية لشعوبها لنحصن أوطاننا من الاختراق الصهيوني لساحاتنا ونحول دون تمدد هذا الأخطبوط الصهيوني وامتلاكه أدوات تأثير في داخل بيوتنا، كان يكفي أن نلتف حول إسرائيل كما يلتف السوار بالمعصم فنقاطعها ونحاصرها فنحول بذلك دون شعور مواطنيها بالتطبيع النفسي مع الوسط المحيط ونعزز عوامل الغربة والطرد في داخلها.
إسرائيل ليست أكثر من مستفز لنا للتنبه إلى مشكلاتنا الداخلية، لقد سقط العرب في اختبار العدالة الداخلية ونجح الكيان في تشييد نظام سياسي قائم على التعدد وتداول السلطة وسيادة القانون، وفي الوقت الذي عجز فيه العرب عن تحقيق النهضة العلمية والاقتصادية قام بناء الكيان من أول يوم على رصد الميزانيات للبحث العلمي والتقدم الصناعي، وفي ضوء هذه المقارنة يصبح السؤال عن انتصارهم وهزيمتنا بلا معنى لأن سنة الله اقتضت أن الذين يعلمون مفاتيح القوة والتمكين لا يستوون والذين لا يعلمون..
في السنوات الأخيرة غدا المشهد العربي أكثر سفورا وانكشافا، وظهرت إلى العيان أزماتنا الدفينة التي جاهدنا طويلا في التستر عليها لكن حكمة الله أن كل مخبوء مآله إلى ظهور، لقد جاءتنا آيات بينات كيف أن العرب رحماء على الكافرين أشداء بينهم، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، جرت الدماء في سوريا والعراق ومصر وليبيا غزيرة بأيدينا لا بأيدي الصهاينة ورأينا من ألهب حماسنا عقودا طويلة في إدانة الجرائم الإسرائيلية لا يتردد عن اقتراف أضعافها حين يقترب الخطر من مصالحه التي حازها بغير وجه حق، رأينا من يتفهم تماما مجازر بشار ولا يرى بأساً في ذبح مليون إنسان قرباناً لصنم، رأينا من يخرج متطوعا من تلقاء نفسه ينادي بعودة حكم الدكتاتور ويكفر بنعمة الحرية التي أعطاه الله إياها بثمن بخس فيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ويؤثر البصل والقثاء والفوم والعدس على المن والسلوى.
لقد رأينا، ويا لسوء ما رأينا، انهيارا مدويا لنموذج المقاوم الشجاع في وجه إسرائيل، فعلمنا أن الإبداع في حقل المقاومة لا يعني بالضرورة النجاح في الاختبار الأصعب وهو اختبار العدالة والأخلاق، فالمقاومة حالة رفض يمكن أن تبدع حين تتكئ إلى شعور قومي أو وطني أو مذهبي ويحالفها الحظ بجملة من العلاقات الداخلية والإقليمية التي توفر لها غطاء للأداء، لكن ما معنى أن تقاوم ظلم إسرائيل وتبارك ظلم بشار، وأي فرق بين أن يقتل الإنسان برصاص إسرائيلي أو روسي؟ وأي مغنم في أن نقضي على إسرائيل ليحل محلها طغاة من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا؟
رأينا عجزا فلسطينيا فاضحا عن الارتقاء إلى مستوى التحديات التي يفرضها واقع الاحتلال ومعاناة الشعب، رأينا انصرافا إلى جمع الغنيمة على حساب الثورة، رأينا شبكة متزايدة من أصحاب المصالح والنفوذ الذين ارتبطت مصالحهم ببقاء الوضع الراهن فمات فيهم الحس الثوري وغدوا عائقا في وجه أي مراجعة نقدية أو تجديد ثوري، ورأينا تراكما في المشكلات الحياتية الداخلية من بطالة وفقر في ظل غياب شعور المسؤولية الحقيقية تجاه هذه المشكلات من قبل المسؤولين، فغدت الهوة واسعةً بين القيادات والشعب وكفرت طوائف واسعة من الشعب بكل الخطابات والشعارات وتراجع حضور الوطن اعتقادا من كثيرين أنه لم تعد أكثر من شركة استثمارية تصب أرباحها في جيوب المسؤولين.
ما بقي من فلسطين هو الذكريات الجميلة لبحر حيفا وبرتقال يافا ونخل بيسان، وما بقي منها هو حلم يداعب مخيلات شباب فتي واعد لم تفسد أعباء الحياة ولا مستنقعات السياسة ولا منطق التجار أشواقه للحرية والحياة، وما بين الذكرى الجميلة والحلم الواعد نحن بحاجة إلى حراك فكري وسياسي وثوري يعيد تصويب البوصلة ويخرج القضية من متاهات التجزئة واستنزاف التفاصيل إلى الغايات الكبرى والمسار الصحيح..
1
شارك
التعليقات (1)
لحسن عبدي
السبت، 21-05-201611:46 م
بل ما بقي لإسرائيل ؟ سنوات معدودة ، وفلسطين حاضرة وباقية
بكل مكوناتها وفي كامل عنفوانها
والحمد والشكر لله
خذلان حكام الجيل الحالي لغلبة
طابع الانغماس في حضارة الأشياء
والتخلي عن عزة النفس والرفعة بين
الامم ، لن ينهي قضية ، إنما مؤجلة
للرجال ...!!!