إعلان «حزب الله» مقتل مصطفى بدر الدين، بقذيفة مدفعية أو أكثر، أثار دهشة واستغراب شباب الحزب المقاتلين قبل غيرهم من اللبنانيين المجربين في الحروب العديدة التي عاشها لبنان. المدفعية لا تغتال باختصار شديد. مقاتل مجرّب بحجم تجربة مصطفى بدر الدين، لن يجلس على الشرفة ليتأمل مطار دمشق. في اللحظة الأولى للقنبلة الأولى، سيجد ممرا أو أكثر للابتعاد عن الخطر. فلماذا إذن اختار الحزب هذه الرواية عن اغتيال واحد من أبرز قادته منذ تأسيسه حتى اليوم؟
بعيدا من المواقف المسبقة أو الطبيعية في مواجهة شخصية، مثل مصطفى بدر الدين، التي يتطلب التعامل معها معرفة أي «طبقة» من طبقاته المتعددة يتم الحديث عنها، فإن عملية اغتياله ليست «ابنة» ساعتها، ولا هي صدفة، ولا فيها شيء من الحظ. إنها عملية معقدة جدا، جرى تحضيرها بعناية ودقة وتخزين لمعلومات، ومتابعة يومية لفترة طويلة. واحد مثل بدر الدين لا يمكن أن يكون له مقر واحد، ولا حتى مقر يرتاده لمرات عديدة. أي خطأ في ذلك، يكون الأول والأخير.
لذلك يمكن القول، من دون مبالغة، إن اغتيال بدر الدين من عمل جهاز أو عدة أجهزة، تابعته بدقة، لكل واحد منها علاقة تدفعه إلى الانخراط في العملية. لا شك في أن شخصية مثل مصطفى بدر الدين، وبكل تاريخه الطويل من العمل الميداني المتعدد الأهداف، تجمع ولا تفرق حتى بين الأعداء، فكيف بالحلفاء أو الذين اعتادوا التعاون الميداني لاغتياله؟!.
بداية، فإن الرواية بأن الجنرال قاسم سليماني كان يعقد اجتماعا عسكريا مع مصطفى بدر الدين، ليست رواية، وإنما واقعة، وهو خرج قبل دقائق من الاغتيال. من الطبيعي جدا، أن يجتمع سليماني بالقائد الميداني الدائم، خصوصا بعد هزيمة طومان الدامية للإيرانيين قبل غيرهم. السؤال هل كان سليماني مستهدفا؟ وهل نجا بالصدفة البحتة؟ لا شك في أن «الكارثة» كانت ضخمة، لو أن سليماني قُتل مع بدر الدين.
مثل هذه العملية كانت حدثا يصوغ مفترقا عميقا لتحولات ضخمة في «الحرب السورية». طبعا مثل هذا الحدث يجيز السؤال حتى لو كان ضعيفا: هل لعب سليماني دورا في تصفية «يده» اليمنى؟! الأرجح كلا. لأن سليماني ومعه إيران و«حزب الله« هم الخاسرون.
السؤال الطبيعي الثاني، هل النظام الأسدي هو «القاتل» أو «شريك القتلة»؟ لا شيء مستبعدا. بشار الأسد متضرر مستقبليا من وجود مصطفى بدر الدين في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل بدر الدين، تم اغتيال عماد مغنية بطريقة أكثر انكشافا؛ لأنها للتذكير، جرت على بعد 75 مترا من مكتب آصف شوكت، الذي سقط أيضا في عملية اغتيال، يدور حولها ألف سؤال وسؤال، عن دور «بيت الأسد» في قتل «الصهر». الأسد ونظامه الأمني اعتادا تقديم «الهدايا» الأمنية من وقت إلى آخر، خصوصا كلما تطلب الأمر «مقايضة» ملحة.
في حالة مصطفى بدر الدين، يبدو الأسد مدينا لـ«حزب الله»، فكيف يؤذيه في موضع حساس له عسكريا وجماهيريا؟
بشار الأسد يتعاون مع إيران والحزب من موقع المحتاج والضعيف. لكن بحسب الأنباء الواردة من دمشق، فإنه يشكو مع أركانه، تدخلات إيرانية، حتى في الشؤون والقضايا الصغيرة التي لا تعنيهم ميدانيا. الحضور الإيراني بعكس الحضور الروسي ثقيل، وفي مجالات عديدة، منها الداخلي الحساس.
يعرف الأسد، أن إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وإن كانت بدرجات، لا تريد إيران والحزب حاضرين بهذه القوة، مهما كانت الحاجة لهما ضخمة. لذلك إضعافهما، يمنح الأسد حضورا إيجابيا في العواصم الثلاث. يستطيع مقايضته بتقديمات سياسية وميدانية عديدة. لا شيء يحول أو يمنع شراكة الأسد مع عواصم الدول الثلاث، مجتمعة أو منفردة، في تقديم الخدمات لها، خصوصا أن كلا من هذه العواصم لها حساباتها الكثيرة مع مصطفى بدر الدين (شارك أو نظم عملية خطف أو قتل ديبلوماسيين روس في بيروت قبل سنوات عديدة، والروسي لا ينسى قتلاه كما يُقال).
قيادة «حزب الله» تعلم جيدا كيف اغتيل مصطفى بدر الدين. مجرد تحديد خريطة الاغتيال، يمكن بسهولة الإضاءة بقوة على المخططين والمنفذين. الحزب ابتعد عن اتهام إسرائيل لأول مرة في تاريخه؛ لأنه إن اتهمها، اضطر للقيام بعملية ثأرية ولو محدودة، وهو في مرحلة لا تسمح له بذلك. مثل هذا الاتهام يتطلب مثلا، إلغاء الانتخابات البلدية في الجنوب الأحد القادم.
مرة أخرى، يتأكد أن كل خطوة إلى الأمام في «المستنقع» السوري، تصبح خطوات إلى الوراء في قضية فلسطين. لا يمكن الجمع بين القضية الفلسطينية والحرب في سوريا والأسد. الشراكة واضحة جدا؛ لذلك الجرح عميق والصمت طاغ.
عن صحيفة المستقبل اللبنانية