ما زالت الحرائق الكبيرة والصغيرة تتوالى يوميا في القاهرة تحديدا، عاصمة البلاد، وفي مناطق أخرى من الجمهورية، وما زلنا حتى اليوم لا نعرف شيئا مؤكدا عن أسباب الحرائق المتتالية والمفاجئة ولا عن المتهمين بها أو ببعضها، ولكن الذي نعرفه جميعا أن كل هذه الحرائق المتتالية يستحيل أن تكون صدفة أو بأخطاء عارضة، لا يمكن أن نمسحها في عقب سيجارة أو ماس كهربائي ثم ننام مطمئنين إلى أننا وصلنا إلى الحقيقة، الغموض سيد المرحلة وسيد المشهد، والاتهامات تتجه في كل مكان، وقائمة المتهمين تتسع حسب انتماء جهة الاتهام، تبدأ من أول الإخوان وأنصار مرسي وتنتهي بالحكومة وبعض جهاتها، مرورا برجال أعمال وأصحاب مصالح وفاسدين يريدون إخفاء آثار فسادهم ودفنه في الحرائق.
حسنا، عقدت لجنة بمجلس النواب جلسة استماع لبعض شهود الحرائق، وقد استمعت لأحد الباعة أصحاب "الفرشات" في حي الغورية، الذي قال أمام اللجنة إنه شاهد أشخاصا مجهولين يشعلون النار في المحلات، وفي مساء اليوم نفسه كانت حملة أمنية مكثفة من مديرية أمن القاهرة تلقي القبض على البائع الذي قدم هذه الشهادة، واتهمته وزارة الداخلية بالتضليل وبأنه قال هذا الكلام طمعا في الحصول على تعويض أكبر من الدولة.
وحسب الخبر الذي وزعته وكالة الأنباء الرسمية، كان أحد البائعين الذين يمتلكون "فرش" بضاعة بمنطقة الغورية قد قدم شهادته أمس، خلال اللجنة التي عقدت بمجلس النواب لبحث أوضاع ملاك المحال التجارية والبائعين المتضررين من حريق الغورية لتعويضهم بأنه رأى مجهولين يلقون مادة على فرش البائعين ويشعلون النيران بها. وقال مصدر أمني في تصريح خاص لوكالة أنباء الشرق الأوسط إن الأجهزة الأمنية بمديرية أمن القاهرة تمكنت من تحديد هوية البائع، ويدعى عبد الله مبروك محمدين عبد الرحمن (61 سنة ) أحد أصحاب الفرش بالغورية وضبطه للوقوف على صحة أقواله، وبمواجهته نفى روايته جملة وتفصيلا، مشيرا إلى قيامه باختلاق مشاهدته لمجهولين يشعلون النيران بالمحال التجارية بمنطقة الغورية للحصول على أكبر تعويض ممكن من الدولة، وتحرر عن الواقعة المحضر اللازم وأحاله اللواء خالد عبد العال مساعد وزير الداخلية مدير أمن القاهرة والمتهم إلى النيابة العامة لمباشرة التحقيق.
نحن أمام حالة عبثية، شاهد قدم شهادته بطلب من البرلمان، لماذا تتطوع جهة أمنية بحشد قوة أمنية من أجل الوصول إلى مكان إقامته وإلقاء القبض عليه، بدعوى "التحقق" من صحة شهادته، هل هذا "التحقيق" مع الشهود من سلطات رجل الأمن أم من سلطات النيابة العامة، ومن الذي طلب من الجهات الأمنية أن تحشد حملتها من أجل القبض على البائع، ولماذا لم تكتف الشرطة بأن تطلب من النيابة الاستماع إلى شهادته، بمجرد استدعائه كشاهد، لماذا هذا الترويع والإهانة والاحتجاز والخضوع لتحقيقات لا نعلم بشكل دقيق ما جرى في أثنائها، خاصة أن عملية القبض عليه كان يشرف عليها مساعد الوزير شخصيا، أي إن الشاهد المسكين وجد نفسه مجرما خطيرا تلاحقه قيادات الداخلية، وليس أمين شرطة في الحي، وقد انتهت "مراجعات" الشرطة مع الشاهد ـ حسب بيان الداخلية ـ بأن البائع تراجع عن كل ما قاله أمام البرلمان، وكذب نفسه، وعرض نفسه للعقوبة، ربما من باب "تأنيب الضمير" وليس لأي أسباب أخرى، وتفسر الجهات الأمنية ذلك بأنه قدم شهادته من أجل الحصول على تعويضات، رغم أنه في كل الأحوال سيحصل على تعويضات، سواء عرف من المتورط في الحرق أو حتى لو لم يعرف، وحتى لو كان "قضاء وقدرا".
المقارنة مؤسفة بين هذا المواطن "البائس" المغلوب على أمره، الذي لا يملك ظهرا ولا فضائية تسوق كلامه وتحميه، وبين شاهد الزور في قضية "ريجيني" الذي ورط الدولة كلها في فضيحة، عندما ادعى أنه شاهد ريجيني يتشاجر مع أجنبي آخر خلف القنصلية الإيطالية قبل خطفه بيوم، وهو ما ثبت أنه كذب محض، ومع ذلك لم يتم القبض عليه ولا ترويعه، فقط طلبت منه النيابة الحضور للإدلاء بأقواله أمامها، حيث اضطرب كلامه وتناقضت شهادته، وتم صرفه من سراي النيابة إلى بيته معززا مكرما، رغم أنه اعترف بأنه اختلق رواية مزورة وكاذبة بدعوى الوطنية!
ما حدث مع بائع الغورية خطير، وسيعمق من ضبابية المشهد والاتهامات في موضوع الحرائق، ويضع الدولة وأجهزتها في حرج أكبر، وأتمنى أن يكون للبرلمان ـ الرقيب والحسيب دستوريا على الداخلية ـ موقف في حماية الشاهد الذي استدعاه، لأن ما حدث له سيخيف أي شاهد آخر في هذه القضية أو في أي قضية، وسيعتبر أي مواطن أن دعوة البرلمان للشهادة أمامه مجرد "فخ" للإيقاع به وتسليمه لرجال الأمن، وأن البرلمان في أحسن الأحوال عاجز عن حماية شهوده.