من منا في حبه لأمته وحرصه على وحدتها - ولا نزكي أنفسنا- وهي تمر في هذه الظروف الحرجة، لم يعش أصعب اللحظات عندما سمع في بادئ الأمر عن نية أحمد داوود أوغلو التقدم باستقالته كرئيس لحزب العدالة، وتبعا لذلك كرئيس لوزراء تركيا. ذلك الحزب الذي قاد تركيا إلى مستويات يحسدها عليها الكثير في الغرب والشرق، ما يجعل قلوب من يحبونها تقطر فرحا وتدعو لهم بأن يزيدهم الله في العطاء، فيصلحوا ما أفسده من سبقهم، ومن حولهم أيضا.
تمر علينا مواقف نذرف فيها الدموع حزنا، ولا نخفي انقباض قلوبنا عندما سمعنا عن نيته تقديم استقالته وفشله والرئيس أردوغان في رأب الصدع فيما يخص رؤية كل واحد منهما حيال التصور المستقبلي لإدارة الحكم في البلاد. وها هي تمر علينا مواقف نذرف فيها الدموع فرحا، ونحن نرى رجل أمة مثل أوغلو يترجل من منصبه تاركا ليس إرثا عظيما لما قدمه لأمته وبلاده، بل أيضا مثالا تحتذي به الإنسانية قاطبة والأجيال من حولنا ومن بعدنا.
كلمات قليلة قالها أوغلو عشية تقديم استقالته، ولكنها تريك معادن الرجال. كلمات استقطعت منها ما جاءت به "الجزيرة نت" على موقعها في قسم الأخبار بعنوان "أوغلو: لن أترشح لرئاسة الحزب وصلتي بأردوغان قوية". وقوله إنه "لن يرشح نفسه لانتخابات رئاسة حزبه، وسيستمر جنديا في صفوفه، وأنه قرر تغيير منصبه وليس رفاقه في الحزب".
"دعا إلى تجنب أي شقاق، وانتخاب رئيس جديد للحزب في المؤتمر الاستثنائي القادم". "إن المؤتمر الاستثنائي للحزب المقرر عقده في 22 أيار/مايو الجاري سيكون مؤتمر وفاء وليس مؤتمر وداع". "لن يسمح لأحد بالتفوه بكلمة سوء عن علاقته مع الرئيس أردوغان، أو أن يفتح باب الفتنة بينهما". "وأن العلاقة التي تربطه بالرئيس أردوغان إنسانية وأخوية، وهي صداقة تمتد لربع قرن".
"وأنه حرص خلال فترة توليه رئاسة الحكومة على أداء مسؤولياته، وأن يكون لتركيا رئيس قوي ورئيس وزراء قوي". "إنه نفذ كل الوعود التي قطعها للناخبين في الاستحقاقات الأخيرة التي أجريت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي".
أوغلو، لم يتحفتر، ولم يتسيس، ولم يتحالف مع الطائفيين ضد أهله وأمته، ولم ينقلب على رئيسه وحزبه، ولم يتفوه بكلمة واحدة ضد رئيسه ورفيق عمره، بل أثنى عليه وحذر من التفوه عليه بأي سوء فيما يخص علاقتهما. وهذا ما يجعل المرء يتوقف ليس مذهولا، بل حمدا لله سبحانه وتعالى، أن رأينا في أمتنا رجال أمة في العصر الذي نعيش، وقد تمثلوا الأخلاق والعلم والحكم والقيادة قولا وفعلا وتطبيقا. تذهلك كلماته وهو يذكر تنفيذه للوعود التي قطعها للناخبين في فترة لم تتجاوز ستة أشهر منذ توليه رئاسة ورزاء بلاده بعد انتخابات نوفمبر. إنه يذكرنا -ولا نزكيه على الله سبحانه وتعالى- بوصف الله عز وجل للمؤمنين بصفات تقودهم للفلاح ونتيجتها جنة الفردوس يرثونها:
أوغلو أنجز في فترات قصيرة، وهو في السادسة والخمسين من عمره، إنجازات لا يمكن أن تكون مجرد صدفة، فمن متخرج من ثانوية اسطنيول للذكور، وحصوله على درجات البكالوريس والماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية والعلوم السياسية من جامعة بو غازيجي، ثم عمله أستاذا في جامعة مرمره، ثم رئيسا لإدارة العلاقات الدولية في جامعة بيلكنت في اسطنبول وماله من العديد من المؤلفات والمقالات.
لم يكن فقط أكاديميا فذا يجيد إضافة إلى لغته الأم، اللغة العربية والإنجليزية والألمانية والملاوية، بل هو شخصية في قمة من الإنسانية التي عشعشت في كل دروبه كسياسي مخضرم، فقد رأيناه يأخذ زمام الأمور في قضية أمة الصومال بعدما شارفت على النسيان من قبل الشرق والغرب، ورأيناه في إنسانيته ورباطة جأشه في زيارته وعقيلته الكريمة - طبيبة النساء والولادة- لأهلنا المنسيين في مياينمار. كيف لا والقدس والأقصى في دمه، وتلك الكلمات التي خرجت من حنجرته الكريمة وهو في حملته الانتخابيه يذكر بالمسجد الأقصى في الوقت نفسه ومن حوله يتربصون به الدوائر ليسقطوه وحزبه في انتخابات نوفمبر 2015، ولكن مشيئة الله أن يرتد مكر الماكرين إلى نحورهم. نتذكره كيف ورفيق دربه الرئيس أردوغان صفعا السياسة الصهيونية ونددا بحصار غزة والمجازر التي حصدت الآلاف من الأبرياء، فكانوا يقولون ويفعلون بقدر ما أعطوا من قدرات يديرون بها دفة الصراع من أجل الإنسانية. لقد قاد الدبلوماسية الدولية لبلاده التي تراءت لنا ملامحها منذ أن عين وزيرا للخارجية في حكومة أردوغان وقبل أن يصبح رئيسا للوزراء.
ومما تقرأه ولا بد أن يثير فيك التقدير للرجل؛ ما كتبه الكاتب الأمريكي والأستاذ الجامعي في كلية الحقوق بجامعة برينستون الأمريكية واصفا أوغلو في مقاله المترجم من الجزيره ترك بعنوان "رحلة النجاح لأحمد داود أوغلو"، والذي نشر في شهر أغسطس 2014، وأستقطع هنا منه للأمانة العلمية أبرز ما جاء فيه:
"لا أجد نظيرا لحالة أوغلو سوى هنري كيسنجر، ورغم أن هذا الأخير لعب دورا محوريا كمهندس للسياسة الخارجية الأمريكية في عصر كانت فيه الولايات المتحدة قوة عظمى، فإنه لم يتبوأ منصبا أعلى من وزير للخارجية".
"من أبرز نجاحات السياسة الخارجية التركية بقيادة أوغلو التدخل في الصومال، عندما تركها العالم كله باعتبارها حالة ميؤوسا منها، إلا أن تركيا نزلت بكامل ثقلها فارتفعت أسهمها نتيجة لذلك في كافة أرجاء القارة الأفريقية".
"تتلخص نظرية أوغلو في السياسة الخارجية في مزج المبادئ بالبراغماتية، أي اتخاذ الخيارات الصحيحة من حيث المبادئ دون أن يؤثر ذلك على العمل الدؤوب لتحقيق المصلحة العليا للبلاد، بما في ذلك سعيها لاعتراف عالمي بها كلاعب استراتيجي مسؤول".
بالطبع أوغلو أعظم من هنري كسينجر في دوره، فهو في إنسانيته وصدقه جمع مع علمه وحنكته السياسية وغيرها ما لم يستطع الكثيرون جمعه وتوظيفة في أحلك الظروف لخدمة الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه.
إن المشهد الذي عايشناه في هذه الأيام الماضية العصيبة؛ حبا لنا في تركيا وحفاظا على وحدتها وقيادتها لما تضطلع به من صعاب ودوائر سوء تحاك لها، وهي في أصعب الأوقات التي تمر بها سورية الحبيبة. يذكرنا بهؤلاء المؤمنين الذين قال الله عنهم في كتابه الكريم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر).
اليوم نقول لداوود أغلو: لقد نجحت ونجح دورك ومهمتك، فقد أصبحت مثالا يحتذى به عالميا ومدرسة تدرس للأجيال في وقتك ومن بعدك، فنعم من رباك ونعم من علمك ونعم من كان بجانبك من أهل بيتك وإخوتك من ساندوك ويساندونك. ونقول للرئيس الطيب أردوغان: نعم الرفيق داوود أوغلو، ونعم ما وقفتم به ضد الظلم والاضطهاد ونعم ما تضطلعون به من مهام، وندعو الله أن يوفقكم وإخوانكم في قيادة تركيا، وإحداث نوعية لها مع داوود أوغلو ورفاقه، ونعيد ما قاله الرجل من أنه "سيستمر جنديا في صفوف الحزب، وأنه قرر تغيير منصبه وليس رفاقه في الحزب".
حفظ الله تركيا ومن معها على الطريق، لنحقق قول الله عزوجل للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفه"..اللهم آمين.