للمرة الأولى منذ عامين تقريبا تنزل القوات المسلحة في الشوارع والميادين الرئيسية في القاهرة وبعض المدن لتأمين المنشآت الحيوية حسب البيان الصادر عن الجيش، وأي زائر للقاهرة الليلة لن تخطئ عينه مشاهد تمركزات الجيش وآلياته كما لن يحتاج إلى كثير تأمل ليدرك أن العاصمة المصرية تعيش أجواء خوف وترقب وأزمة مستحكمة، وهذا يعني أن تقديرات "المؤسسة" تعطي إشارات بالقلق من احتمالات أحداث الغد، الاثنين، كما أن الخطاب الذي قدمه الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم في ذكرى تحرير سيناء كان واضحا أنه امتداد لتوتره والإصرار على تحدي الغضبة الشعبية الجديدة، والإشارات بالتهديد أو المواجهة بدلا من الاحتواء والبحث عن أسباب الغضب، وفتح نوافذ الحوار الذي يفكك الأزمات ويفرغ الاحتقان، وقديما كان الشاعر العربي الحكيم يقول: يقضى على المرء في أوقات محنته.. حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن، والمؤكد أن السيسي الآن في محنة، وفي قلق، وهو ما ينعكس على مواقف وقرارات يعتقد كثيرون أنها غير موفقة، وأنها تدفع باتجاه المزيد من الصدام والصدع السياسي والاجتماعي والغضب الشعبي، وأنه بدافع العناد وربما النصيحة غير الجيدة يختار الخيار الأسوأ لكل موقف.
المشكلة في مصر أن بعض القوى رأت بعد 30 يونيو أنه يمكنها أن "تفصل" الدولة على مقاسات محددة، تعيد إنتاج منظومة ما قبل 25 يناير، وتمضي السفينة على المسار القديم نفسه، بسيطرة المؤسسات الأمنية والقبضة الحديدية بتشريعاتها وأحكامها مع هياكل ديكورية لحالة ديمقراطية مزيفة، وهو تصور كان يفتقد إلى الخبرة السياسية والقراءة العلمية الحكيمة لتحولات العالم اليوم، وخاصة في المنطقة العربية ما بعد الربيع العربي، وفي هذا السياق عملوا على تفريغ المؤسسات من محتواها، وخاصة البرلمان، الذي تم تأجيله أطول فترة ممكنة لضمان فراغ سياسي يتيح إعادة هيكلة الدولة بإحكام، وتهميش أي تيار معارض وتمكين الحاكم الفرد، ولما عملوا على إخراج البرلمان وضعوا له من الهياكل والتشريعات ما يجعل مخرجاته تحت السيطرة بالكامل تقريبا، فكان هذا من الأسباب الجوهرية التي وضعت السيسي ونظامه في الأزمة الحالية، لأن البرلمان فشل في امتصاص الغضب السياسي من الشارع، وسحب المعارضة الجادة حول القضايا المختلفة لتفريغها تحت قبته بشكل سلمي وآمن ومقنن، لأن هذا هو دور البرلمان في أي نظام سياسي ديمقراطي، ولهذا تم "اختراعه"، وهذا هو ضمان استقرار المجتمعات وتأمينها من فوضى غضب الشارع دائما، ونقل المعارضة من الشارع إلى قبة البرلمان، وما حدث في مصر يوم الجمعة قبل الماضي وما هو منتظر غدا، بكل هذا التوتر المصاحب له، الكشف بوضوح عن فشل كل المنظومة السياسية التي تم "تفصيلها" بعد 30 يونيه 2013 وحتى الآن، ففقد البرلمان مكانه ودوره الوطني، مهما بقي كرمز قانوني بلا أي فاعلية سياسية، واستعاد الشارع ريادته وزخمه من جديد، وانتقل الحراك السياسي إلى الشارع مرة أخرى، وهو ما جعل الوطن يستعيد حالة الصدام والخطر والإحساس بالغموض الشديد تجاه المستقبل، وقد كنا في غنى عن ذلك كله، إذا تم البناء بإخلاص وطني وتجرد لمصر، وليس لحسابات ضيقة، شخصية أو فئوية.
أيا كانت نتيجة الأحداث المتوقعة غدا، التي نسأل الله اللطف فيها لمصر وأهلها، إلا أنها تكشف بوضوح عن أن البلاد دخلت في طور جديد من القلق السياسي وعدم الاستقرار، واقتربت أكثر من "صيغة" المرحلة الانتقالية، التي يشعر الجميع بأنها عارضة وأنها إلى زوال وأنها غير قابلة للاستمرار، ولكن أحدا لا يعرف كيف تنتهي ولا ما هي البدائل، مظاهرات الغد مقلقة، هذا صحيح، ولكن المقلق أكثر هو ما بعدها، وأن تطول مرحلة الغموض والخوف وعدم الاستقرار، خاصة أن كل الأطراف تبدي إصرارا على "النزال"، والمعادلات "الصفرية" عادت من جديد إلى صدارة مشهد السياسة، وأصبحت تسمع من كل طرف عن الوعيد والتهديد والتلويح بالحسم، دون أن تسمع كلمة واحدة عن الحوار أو التوافق الوطني، ومصر الآن، بميراثها الكئيب، الاقتصادي والأمني والاجتماعي لا تتحمل أعباء هذا العناد أطول من ذلك.