أحدثت تسريبات بنما صدمة واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم، لما كشفت عنه من مخالفات ارتبطت بعدد كبير من المسؤولين، وأعادت مرة أخرى إلى الساحة قضية التهرب الضريبي والذي على ما يبدو من التسريبات أنه يمارس على نطاق واسع، وفقا لما تم تسريبه من مركز أوفشور واحد.
بالطبع من المتوقع أن دهاليز مراكز الأوفشور الأخرى في العالم تحوي الكثير من الأسرار التي لو كشف عنها سوف تظهر مخالفات هائلة للنظم الضريبية في العالم من جانب الأثرياء أو أصحاب الأموال المشبوهة، الذين يسعون لإخفاء مصادر أموالهم خوفا من تتبع مسارها أو كشف مصدرها الحقيقي، أو الذين يسعون لتأسيس شركات في تلك المراكز يحولون عليها دخولهم أو إيراداتهم بهدف التهرب من الضرائب.
التهرب الضريبي ظاهرة قديمة، قدم نظم الضرائب في العالم، على سبيل المثال يحكى أن الرومان أثناء القرن الثالث الميلادي كانوا يقومون بدفن الذهب والمجوهرات للتهرب من الضريبة على الكماليات المفروضة في ذلك الوقت.
وعبر التاريخ عندما تفرض ضرائب كان هناك دائما من يحاول التهرب من دفعها بوسائل مختلفة، والتهرب الضريبي لا يختص بدولة أو إقليم محدد في العالم، فعلى عكس ما قد يظن البعض أن الظاهرة تخص الدول النامية فقط، فإن التقارير المتخصصة عن الدول المتقدمة تشير أيضا إلى انتشار هذه الظاهرة.
غير أن التهرب الضريبي غالبا ما ينتشر في الدول النامية نظرا لضعف النظم الضريبية أو عدم توافر الهيئة الضريبة الكفؤة أو الفعالة القادرة على تقييم الضريبة على أساس صحيح، أو حيثما ينتشر الفساد في الجهاز الضريبي. كما أن التهرب الضريبي لا يقتصر على ضريبة الدخل أو الميراث، ولكن الدول النامية أيضا تواجه أيضا مشكلة التهرب من دفع الرسوم الجمركية، حينما يتم تزييف فواتير الواردات بتقديم فواتير بقيمة تقل عن القيمة الحقيقية، إذا كانت الرسوم تحسب على أساس نسبة من القيمة.
التهرب الضريبي يعد جريمة في كل النظم المالية في العالم، ويتمثل في لجوء الممول إلى وسائل غير قانونية للتهرب من دفع الضريبة، أو دفع ضريبة أقل، مثل عدم الإعلان عن الدخل الخاضع للضريبة أو المغالاة في النفقات لخفض الأساس الخاضع للضريبة، أو غير ذلك من التصرفات غير القانونية التي تمكن الممول من التهرب من دفع الضريبة كليا أو جزئيا.
يحدث أحيانا خلط بين التهرب من الضريبة وتجنب دفع الضريبة، لكن أثرهما في المالية العامة للدولة واحد، وهو انخفاض إيراداتها الضريبية وتزايد الضغوط على دافعي الضرائب الحاليين. التهرب الضريبي هو الحالة التي يقوم فيها الممول بمخالفة القانون بهدف دفع ضريبة أقل مما هو مفروض عليه أو التهرب من دفع الضريبة تماما، ويعد هذا التصرف من الأنشطة التي يعاقب عليها القانون في كل النظم الضريبية في العالم.
أما تجنب الضريبة فهو قيام الممول باللجوء إلى وسائل قانونية يتمكن من خلالها من عدم دفع الضريبة أو تخفيضها وفقا للنظام الضريبي المتبع في الدولة، مثل نقل النشاط فعليا أو دفتريا لدولة ليس فيها ضريبة مثل حالة بنما، أو كتابة الأصل أو النشاط الخاضع للضريبة باسم أحد الأقارب كالزوجة أو الأبناء لتخفيض معدل الضريبة المطبق، أو حتى التخلي عن الجنسية، مثلما يفعل بعض المتجنسين بالجنسية الأمريكية الآن بعد الإعلان عن تطبيق نظام "الفاتكا" الذي يمكن إدارة الضرائب الأمريكية من تحصيل الضريبة على دخول الأمريكيين المقيمين في الخارج.
بشكل عام من يتجنب الضريبة بالوسائل القانونية هم من لديهم القدرات المادية التي تمكنهم من الحصول على الخدمات الاستشارية والقانونية من خلال المكاتب المتخصصة في تجنب الضريبة، مثل ذلك المكتب القانوني الذي تمت عمليات التسريب من خلاله في بنما، أو الذين لديهم القدرة على نقل أموالهم عبر الحدود إما قانونا أو من خلال استغلال النفوذ أو غير ذلك من وسائل. أما من لا يتمكنون من ذلك -نظرا لضعف قدراتهم المالية- فغالبا ما يلجأون إلى التهرب الضريبي؛ لذلك هناك قول مشهور باللغة الإنجليزية مفاده أن "محدودي الدخل يتهربون من الضريبة أما الأغنياء فيتجنبون الضريبة".
وتتعدد آثار التهرب الضريبي، فمن يفعل ذلك ينقل عبئه الضريبي على عاتق غيره، حيث يضطر ممول آخر ملتزم بدفع عبء هذا التهرب إما بصورة مباشرة، عندما تضطر الدولة إلى رفع معدلات الضرائب لعدم كفاية حصيلتها لتمويل احتياجاتها من الإنفاق العام، أو بصورة غير مباشرة عندما تضطر الحكومة للاقتراض عند حدوث عجز مالي يؤدي إلى ارتفاع حجم الدين القائم على الحكومة. هذا الدين أو أعباؤه يتحمل جانبا منه دافعو الضرائب لاحقا، نظرا لتهرب بعض الممولين من دفع ما يستحق عليهم من ضرائب. حول هذه القضية علق الرئيس أوباما على تسريبات بنما بقوله إن الممولين العاديين يدفعون ما يجب أن يتحمله أصحاب الثروات التي ينقلونها للخارج.
نظرا لعدم توافر بيانات عن عمليات التهرب الضريبي، لا يمكن الوقوف على الحجم الحقيقي للتهرب الضريبي الذي يتم في العالم بصورة سنوية، غير أن الدراسات المتاحة تشير إلى أن عمليات التهرب تمثل نسبا جوهرية من الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم، بما فيها الدول المتقدمة.
ويطلق مصطلح فجوة الضريبة على ما يترتب على التهرب الضريبي من آثار مالية، وتمثل فجوة الضريبة الفرق بين ما يجب أن يتم جمعه من الضريبة والحصيلة الفعلية التي يتم تحصيلها، وبالتالي كلما اتسع التهرب الضريبي اتسعت الفجوة الضريبية، ومن ثم تزايد الضغوط المالية على الحكومة.
وتعد الفجوة الضريبية أحد المحفزات لتطبيق نظام "الفاتكا" في الولايات المتحدة، حيث قدرت الفجوة الضريبية في 2008 بنحو نصف تريليون دولار أمريكي، كما قدرت الدخول غير المعلن عنها من جانب الأمريكيين الخاضعين للضرائب بنحو تريليوني دولار.
بالنسبة لأوروبا فإن بعض الدراسات تقدر الفجوة الضريبية في المتوسط بنحو 11 في المئة، حيث توجد أعلى فجوة ضريبية في إيطاليا بنسبة 14 في المئة، واليونان بنسبة 12 في المئة، وإسبانيا بنسبة 11 في المئة، أما أقل فجوة ضريبية فتوجد في المملكة المتحدة بنسبة 3.3 في المئة، وإيرلندا بنسبة 3.2 في المئة، ولوكسمبورج بنسبة 1.6 في المئة، وعلى الرغم من نقص الدراسات عن الدول النامية فمن المتوقع أن تكون الفجوة الضريبية أوسع.