اشتهر أحد وزراء بورقيبة المقربين بحادثة طريفة في سخافتها وبؤسها؛ فحوّلها التونسيون إلى نكتة أزلية. فقد كان هذا الوزير من المتقربين زلفى وكان يزعم كتابة التاريخ الذي يدور حول محور ثابت ووحيد هو الزعيم.
وقد تفتق ذهنه على حيلة فجلب ذات يوم إلى الزعيم فردة حذاء قديمة ويتيمة وقال له أن هذه الفردة هي ما عُثِر عليه من حذاء الزعيم في الصحراء عندما كان يخترقها وحيدا تائها في طريقه إلى الشرق هربا من قهر الاستعمار. ويبدو أن فردة الحذاء ظلت في انتظار المؤرخ لتثبت بطولة الزعيم ورزق الوزير المؤرخ.
لقد حكم الزعيم بمثل هذا الوزير وبمثل هذا التقدير لعقول شعبه (الذي لم يكن يراه إلا غبارا من الأفراد)، ونحن نشهد هذه الأيام ورثاء الزعيم يقومون بعمل لا يختلف كثيرا عن صناعة التاريخ بفردة حذاء.
في لحظة تاريخية فارقة قام فيها الشباب الحفاة العراة في الجنوب بالتصدي لهجوم إرهابي فكسروه وصنعوا لهم مجدا جديدا من نفس مجد ثورتهم السلمية. وعوض أن يحتفى بنصرهم وبرمزيته في أفق خلق ثقافي جديد عنَّ لشيوخ البورقيبية أن يخرجوا من عدم الذاكرة تماثيل الزعيم الميت مرتين. مرة بأيديهم وأخرى بيد القدر.. لينصبوه في الشوارع والساحات عائدين بالجيل الجديد إلى تاريخ أسود قمع فيه أهلهم قمعا مدمرا، ومنع تطورهم إلا في سياق القبول بفردة الحذاء العبقرية.
الحنين الغريزي
الجراء العمياء تهتدي إلى أمها بالرائحة فإذا أبصرت فَطَمَت نفسها واعتمدت على قدرتها على الصيد لكن شيوخ البورقيبية الفانين (معدل أعمارهم فوق السبعين) وبعض مفارخ الايديولويجيا لا تزال في حالة حنين غريزي إلى أطْبَاءِ الأم وقد أفقدتهم الثورة رائحة الزعيم، فتاهوا وهاهم يرتدون إليه ليخرجوه من الأجداث سريعا كأنهم يسترقون غفلة من شعب قَرِف من مناوراتهم ورفض ما يخططون له من ردة على كل ما أنجزته الثورة من أمل في مستقبل بلا زعامات مزيفة.
استعادة الزعيم في تقديري تتم لغايتين بحسب المشاركين فيها وهما التجمعيون المتسترون في أحزاب جديدة وفي ما تبقى من جثة نداء تونس، وبعض اليسار الثقافي الفرانكفوني. هناك استعادة انتخابية وأخرى ثقافوية سياسية.
الاستعادة الانتخابية
بالنظر إلى الانكسار الفاضح الذي انتهى إليه حزب نداء تونس فإنه وفي محاولة يائسة للم شمل العائلة الدستورية وهي تسمية مغلوطة تحاول جمع فلول حزب الدستور(حزب بورقيبة) إلى فلول التجمع الدستوري الديمقراطي (حزب بن علي)، هذه العائلة الأقرب عمليا إلى مجموعة من العصابات الصغيرة القائمة على عصبيات جهوية ومالية. تملك من الذكاء الغريزي من يجعلها ترى أن الثورة وأن لم تعلق لها المشانق على الطريقة الفرنسية فإنها تسرِّب منها البلد كما يتسرَّب الماء من بين الأصابع، لذلك تقاوم بقوة لتتمسك بما بين أيديها وتطمع إلى استعادة مكاسبها (ولا أقول أمجادها لأنها أول المعترفين بأن لا مجد لها) وفي سبيل ذلك لم يذهب ذكاؤها إلى مراجعات جذرية لتجربتها في الحكم وتقديم نقد ذاتي عميق يقارب بينها وبين جمهور واسع متردد في الانتماء إلى الأحزاب الجديدة فإنها فعلت فعل عكرمة بن أبي جهل لما أدركه الفتح فهام في الصحراء نكوصا. التيه في صحراء هذه الجماعة الباحثة عن ترميم تاريخها قادها إلى إخراج تماثيل الزعيم بعد أن أكلها الصدأ في المخازن مذ تخلوا عنه خوفا من بن علي وطمعا في غنائمه لتعيد تنصيبها موهمة الجمهور بأنها تنتمي إلى مشروع الزعيم.
وما مشروع الزعيم؟ إنه (محرر المرأة وباني تونس الحديثة). الجملة التي كتبها على باب قبره بماء الذهب المنتزع من خبز الفقراء. تونس الحديثة هي نصف قرن من القهر المنظم والفقر الموزع بعناية بين الجميع. نصف قرن من الهدر المنهجي للثروات والإمكانيات. هي نظام قميء لم يشهد له موقف حاسم في سياسة دولية ولا في فض نزاعات ولا في إبداعات علمية ولا ثقافية تجعل من المرحلة ذكرى طيبة يعود لها الشباب الذي ثار عليها فأسقطها بفقرها أكثر مما فعل بقوته. وهم يلتقون في ذلك مع قسم آخر من نخب رباها الزعيم تحت جناحه هي نخبة التبعية الثقافية المغتربة عن شعبها وعن تراثها وثقافته التاريخية. وهي تشارك في هذه الاستعادة لغاية مشابهة ولكن لها في جيبها شيطان سياسي آخر، هو استفزاز الخصم الإيديولوجي، حركة النهضة.
الاستعادة الثقافوية
يتزعم هذا التيار فلول اليسار الثقافي الفرانكفوني أو بقية الحزب الشيوعي التونسي (وأغلبهم يسيطر على الجامعة) وبعض اليسار الأيديولوجي لا إيمانا بالزعيم ولكن انطلاقا من فرضية أقاموا عليها عملهم السياسي منذ ظهر لهم الإسلاميون في المشهد السياسي فصار من العسير إقصاؤهم. يعتقد هؤلاء أن العداء الذي حمله الإسلاميون في نفوسهم للزعيم الحداثي سيوقظ شياطين الإسلاميين فيتصدون لإعادة التماثيل فيخرجون رافضين له فيقيمون ضدهم الشارع الحداثي بوصفهم في مرحلة أولى بمعاداة تاريخ البلد (حصر تاريخ البلد في تاريخ الزعيم وفردة الحذاء) أي أنهم غرباء ونكرة في تاريخ تونس ثم في مرحلة ثانية يعودون بالشارع إلى أسطوانة معاداتهم للحداثة وللمرأة ونعرف بقية الأسطوانة التي تحرك دوما في المناسبات الانتخابية استقطابا للصوت النسائي في الصناديق. إنها استعادة استفزازية لا علاقة لها بتقديس الزعيم ولكن غايتها الأولى خلق المعارك الخاطئة التي تضمن لهم نجاة النظام (الذين يشكلون قاعدته الأيديولوجية) ومن استحقاقات التنمية والتشغيل والتطوير والتحديث الاقتصادي الحقيقي وتضمن لهم البقاء في صورة المتكلم الدائم باسم التحديث وحرية المرأة، في مواجهة "إسلام سياسي رجعي غريب وافد من شرق التخلف والرجعية".. (وكم يبدو تمثال الزعيم مفيدا هنا).
الإسلاميون يهربون إلى الأمام كالعادة
استباقا لهذه المعركة المفضوحة سواء التي تهدف إلى تجميع فلول النظام القديم في كتلة واحدة أو التي ترغب في إعادة فتح معارك الإيديولويجيا. استبق الإسلاميون (النهضة أعني) المعركة ليفرغوها من مضمونها بأن تبنوا دفعة واحدة تاريخ الزعيم (كأن لم يعادوه يوما) فقد تكلم الأمين العام لحزب النهضة في المنستير مدينة الزعيم فقال في بورقيبة ما لم يقله المتنبي في سيف الدولة. فأفشل خطتين بخطاب واحد. وسكت جمهور الحزب عن المشهد الاستفزازي وعن كلفة التنصيب فبدا كأنه نزع فتيل قنبلة في معركة لا يريدها. لكن الضرر حصل لعامة الناس الذين وجدوا أنفسهم يحقّرون من جديد من قبل العائدين بالتمثال ومن قبل القابلين به. عاد رمز التحقير إلى الساحات وغابت الرموز الجديدة للثورة فلم يحتفل أحد بنصر بن قردان التاريخي على الإرهاب(معركة واترلو داعش). ولم تتحول معارك الثورة ومكاسبها إلى مرحلة التجسيد الايوقوني الضرورية لكل عمل تغييري يصنع الرؤية الجديدة للعالم. لقد التقوا جميعهم في ساحة معادية لثقافة الثورة.
والبرونز الصدئ يعود إلى الساحة يظهرون في خبثهم وفي جبنهم متواطئين ضد الثورة. إنهم يعودون بها القهقرى فيكشفون فقر خيال مدقع عاجز دون فتح أفق جديد لثورة أنجزها شباب ولد بعد موت الزعيم الذي لا يضاهي موتين تامين كاملين. أنهم يريدون غلق قوس الثورة وأعتقد مما أرى واسمع أنهم في سعي حثيث إلى موت يشبه موت الزعيم، موت رخيص في زاوية النسيان.
سنرى التماثيل ونضحك ضحكا أصفر، فصاحبها لا يعبر عن مستقبلنا ولكنه يعبر عن ماضيهم ولقد تسربت البلد الآن من بين أصابعهم كما يتسرب الماء وهم في معركة تثبيت الأرض الرخوة تحت أقدامهم ينزلقون. ولا يجدون حتى فردة حذاء الزعيم. الزمن والآفات تشتغل لصالح الثورة. فهل من مدَّكِر.