وقد قسم لي القدر أن أعيش مبعداً، في غياهب الحنين لتنقسم روحي شطرين أحدهما في غزة والآخر خارجها.. أحاول التشبث بخيوط الأمل الذي تمدني به أمي عند الحديث ما استطعت، تشير الساعة الآن إلى العاشرة مساءً بتوقيت جمهورية الكهرباء المنقطعة، منذ اثنتي عشر ساعة، لم تبث الإنارة في بيتي حتى اللحظة، ظلام يلفها، يكسر حدته إضاءة المحمول بين الفينة والأخرى، أحدث نفسي صبرًا لا بد أن ينال اللقاء من الشوق ولو بعد حين، تشرق روحي في تمام الحادية عشر مساء، مرت ساعة كاملة عن موعدها المفروض، أتجه لغرفتي مسرعاً، أتسمر أمام حاسوبي أجري اتصالا من بلاد الأموات هنا إلى بلاد الأحياء هناك، يطفئ صوتها اشتعالي قبل صورتها، رقيق جميل فيه من الحب والحنان ما لو وزع على غزة لأنار ظلمتها.
تخاطبني معاتبة أكثر من أي شيء آخر، "إيييه مرت 17 سنة يمه بدكاش تسيب غزة وترجع ع الإمارات، ع حضن إمك لتشمك، والله خايفة أموت وما أشوفك أنا تعبت من اتصالات الإنترنت ومن قصص هالكهربا صارت روحي معلقة بجيتها وغيابها إن أجت أحيتني وإن راحت قتلتني"..
أكفكف دمع عينيها من خلف شاشة الحاسوب موهماً نفسي أني ألمسها، وإن كنت أشعر بها احتراقاً، بئساً لتلك الظروف التي أبعدتني عن جنة أمي.
تعود قناصات هذا الشوق حينما قرر والدي إرسالنا لغزة عند أقاربي من أجل إكمال الدراسة، فالتحاق الفلسطيني في جامعات دول الخليج ليس بالأمر السهل لذوي الدخل المحدود هناك، وخصوصاً الإمارات فأنا سأحتاج سنويا ما يعادلُ 10 آلاف دينار.
هنا بيتنا أيضاً لكنه بارد جداً فلا بيت يمكنه أن يضم أصحابه دون دفء الأم وعطفِ الوالد، أذكر أنه كان جنة لكن دونهما استحال صحراء قاحلة، جلستُ أنا وأختي أسبوعاً كاملاً دون نوم، أحلام اليقظة كانت رفيقة حلوة المعشر، تخلله كم جيدٌ من الاتصالات كان يسودها البكاء أكثر من الكلام، ولأننا نكبر سريعاً في غزة بتنا أشد قوة من ذي قبل، التحقنا بالجامعة الإسلامية وكوّناً قدراً لا بأس به من الأصدقاء، خلال سنوات الدراسة، فاختلفت نظرتنا لغزة ولطبيعة المكوث فيها، علاقتنا بها لم تعد للحاجة، بل ازددنا بها ولها حباً، وعلى الرغم من كثرة الآلام فيها إلا أن جذوة الأمل فيها لا تخبو.
صوت جرس الباب يعيدني لواقعي، مبعثرة هي المشاعر تتسابق وتتبارى أيهن تجتاح قلبي وتبني أسوارها فيه، شوق وحنين يبرزه رذاذ من الدمع، نعم.. فبعد فشلنا أنا وأختي عدة مراتٍ في ترتيب موعد للزيارة حسب جدول الكهرباء في بيتي، الموعد الذي لم ينتظم يوماً ها أنا أستقبلها أسلم عليها وعلى زوجها، وابنهما فتسألني "هل اتصلت أمي؟ حكيت معها؟ شفتها؟ منيحه؟ ابوي منيح؟ سألوا عني؟"..
أهدئ من روعها وأطيل النظر في وجهها لأتأكد أن معالم الارتياح ترتسم على محياها، خد متورد لا هالات سوداء فيه، الفرح يشع من عينيها، ثم أردف قائلا لها "أمي مش ناقصها وجع تشوفك تعبانة أو حزينة أو مش نايمة منيح هيها عم تستناك".. تقبل أختي على الحاسوب بلهفة كمن أضاعت رضيعها في صحراء ثم بعد خبو الأمل في لقائه يعود إليها من تلقاء نفسه.
همت أختي بتقبيل أمي فأشاحت بوجهها عن الشاشة لتخاطبها ونبرة الحزن في صوتها: "يما إنت بتبوسي الشاشة أكثر مني".. حالة من الصمت الثقيل خيمت علينا ليقطعها زوج أختي منادياً على أمي أن انظري هذا قاسم ولي العهد قد كبر شهراً، ألا يستحق منك قبلة؟!
تبقى أمي مصرة على موقفها لا قبلات للشاشة بعد الآن، ثم لا يلبث إلا أن يشرق وجه أمي من جديد مبتسماً، رغم الوجع أحاول مباغتتها بقبلة سريعة، يظلم البيت فجأة لأكتشف أن الكهرباء كان لها السبق في قطع الوصال، تظلم أرواحنا فتنعشها رسالة نصية من أمي "أنا واثقة إنه ربنا راح يجمعنا بيوم ونكون فيه عيلة نجمع فيها شتات أنفسنا، كل الحب لكم والقبلات دعوها ليوم اللقاء قل فقط يا رب" فتنعشنا بشهاب أمل، وبقدر جميل من رب كريم..