قضايا وآراء

القيق وآخرون .. قضية الأسرى في طور جديد

حسام شاكر
1300x600
1300x600
كان من المفترض أن يأتي ضمن سرد عددي ضمن آلاف الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، لكنّ الصحفي الفلسطيني محمد القيق سلك مسار المخاطرة الجسيمة الذي شقه أسرى وأسيرات من قبل، عبر خوض صراع الإرادات. خاض القيق معركة الإرادة عبر شهور ثلاثة، ثم انتصر. 

تضافرت التجارب عبر الأعوام الأخيرة لتخرج معها قضية الأسرى من مأزق السرد العددي، إلى لغة الوجوه والأسماء والقصص الإنسانية والتفاعلات واسعة النطاق.

لم يكن تحوّلا يسيرا هذا الذي تحقق، بل هو حصيلة تضحيات جسيمة بذلها الأسرى أنفسهم، وثمرة صلابة متزايدة في الموقف التفاوضي مع إدارات السجون، تلازما مع تطور نوعي في منطق التفاعل الإعلامي والجماهيري خارج السجن مع الحركة الأسيرة.

كان السائد من قبل أن تتوارى الحقيقة الإنسانية خلف البيانات العددية الكمية، خاصة مع غياب الصورة والمشهد بتأثير التعتيم الإعلامي الذي تعتمده سلطات الاحتلال، وغالبا ما انحصرت قضية الأسرى في نطاق الأخبار الاعتيادية والمتابعات النمطية، فوقائع المداهمات والاعتقال والمحاكمات يشبه بعضها بعضا، فتفقد بمنحى الاعتيادية هذا أهميتها الإخبارية؛ فالنمطية تقتل الحياة في الأخبار، وتطمس كثيرا من التفاصيل المثيرة للاهتمام، التي قد تكون أحيانا ذات قدرة تأثيرية فائقة أو صادمة.

لكنّ الأسير عندما يقرر خوض المعركة بقوة الإرادة والاحتمال، فإنه يتمرد على تلك النمطية المعهودة فيصنع الحدث ويدفع بقضيته العادلة لتستثير تفاعلات واسعة النطاق. لم تتوقف صناعة الحدث في حالة الصحفي القيق عند فعل الإضراب عن الطعام؛ بل اتسعت لتشمل طيفا عريضا ومتنوعا من التفاعلات المتعدية للشرائح والعابرة للجغرافيا.

أصبحت الجماهير اليوم حاضرة في مشهد الحدث، وتمتلك من أدوات التعبير المباشر عن مواقفها وانفعالاتها ما لم يتحقق لها من قبل. وقد استفادت قضية الأسرى من هذا المتغيِّر الذي يتجلى بوضوح في فضاءات التشبيك الإلكتروني والأجهزة المحمولة.

اتجهت الساحة الفلسطينية ونطاقات التفاعل حول العالم من التناول النمطي أو الكمي المجرّد لواقع الأسرى والأسيرات، إلى خيارات التعريف الإنساني وفرص المواكبة التفاعلية؛ فقبل سنة واحدة من قضية الصحفي القيق مثلا، تحركت حملة واسعة تضامنا مع طفلة فلسطينية هي ملاك الخطيب، حتى تمّ إطلاق سراحها مرفوعة الرأس بعد شهرين من الاعتقال.

كشفت تلك الحالة وقتها عن مدى القصور الذي ساد سابقا نحو حالات اعتقال أطفال في سجون الاحتلال، ولم تجد من يصعد بقضاياهم إلى فضاءات الاهتمام اللائق بها. كما أشارت تلك الحالة تحديدا إلى أنّ وضع قصة محددة في صميم الوعي الجماهيري لا يتطلب خوض إضراب عن الطعام، بل يتأتى صناعة الحدث من خارج السجن وتحت ضوء الشمس إذا توفر التصوّر أو دليل العمل، وانعقدت الإرادة على خوض تجربة التفعيل اللازمة.

ومع ذلك، فإنّ إضرابات الجوع التي خاضها بعض الأسرى انفراديا، صنعت الفارق الجوهري وساهمت مع عوامل ومتغيرات أخرى في إنضاج ثقافة تفاعلية جديدة مع قضية الأسرى؛ فقد تعرّفت الجماهير الفلسطينية من نافذة الإضراب إلى وجوه وأسماء اكتسبت رمزية خاصة، وهي تخوض معركة الأمعاء الخاوية، من قبيل الشابة هناء الشلبي في إضرابها الشهير سنة 2012،الذي أكسبها رمزية معبرة عن إرادة الأسيرات ككل. وعندما خاض لاعب كرة قدم مثل محمود السرسك إضرابا مديدا عن الطعام هو الآخر، فإنّ صناعة الحدث كانت كفيلة بأن تكتسب أبعادا فائقة التأثير. وتضمّ قائمة الرواد الذين خاضوا صراع الإرادات بأمعائهم أسماء شتى من قبيل خضر عدنان وسامر العيساوي وغيرهم، وقد سجلوا خلال السنوات الماضية أرقاما قياسية نسبيا في إضرابات الجوع.

لقد استنفر هؤلاء طاقات مجتمعهم الكامنة، فربح الشعب الفلسطيني بإضراب الصحفي محمد القيق متحدثة إعلامية جسورة تحمل قضية الأسرى هي زوجه فيحاء شلش، علاوة على نضوج تجارب متجددة من الفعل المدني والجماهيري والسياسي، تستشرف آفاقا من التطور في الحاضر والمستقبل.
وهكذا؛ لا يصح اعتبار المكتسبات المتحققة من خلال هذه النضالات الشائقة مقتصرة على ما يتمكن هؤلاء الأسرى والأسيرات من انتزاعه من نظام الاحتلال الإسرائيلي، فقضية الأسرى ككل تكتسب من خلالهم زخما متجددا، ويتأهل كل منهم من بعد ذلك لأن يصبح رمزا معبرا عن الواقع المتواري خلف القضبان، وسفيرا للحركة الأسيرة عبر العالم، وعبئا على دعاية الاحتلال المضللة. 

بعد ما تحقق من تحولات خلال الأعوام الأخيرة لا مناص من التطوير النوعي والمراجعات الجادة للبناء على المكتسبات، ولحشد مزيد من القوى والأصوات والمواقف لدعم حرية الأسرى والأسيرات، والتقدم لصناعة الحدث القادم حتى دون أن يضطر أسير أو أسيرة للاندفاع إلى شفير الهلاك. 

من القسط القول إنّ محمد القيق كان هو الحرّ طوال شهور ثلاثة من الإضراب المديد، أما سجّانوه فكانوا هم الأسرى، لقد قيّدوه بالأصفاد وصفّدهم هو بأمعائه.
0
التعليقات (0)