لا عاقل يتوقع اليوم إجماع الدول العربية ووحدة موقفها في ما يخص النزاعات الدائرة في المنطقة ميدانيا، مثل روسيا، أو المتغيّبة بقرار مدروس، مثل الولايات المتحدة. فسمعة الانقسام والتنافس وراء الكواليس تسبق أي اجتماع مع القيادات العربية، بل باتت جزءا من السياسات التي تضعها وزارات الخارجية قبل الاجتماعات.
المشكلة أكبر عندما تتضارب القراءات الديبلوماسية العربية لمواقف روسيا، مثلا، ما يؤدي بالضرورة إلى صياغة سياسات متضاربة لا مواءمة فيها ولا تنسيق. عندئذ لا يتوقف الضرر عند القراءة السياسية بل يدق في عقر الساحات الدامية ويساهم عمليا في استمرار النزيف. وهذا يطبّق على المفاهيم المختلفة للسياسات الأميركية نحو الشرق الأوسط، بقدر ما يُطبّق على السياسات الروسية.
المعضلة أساسا تكمن في هيكل العلاقات العربية - العربية وافتقاد المنطقة العربية إجراءات حازمة وضرورية من أجل إعادة تموضع المنطقة العربية في الرقعة الدولية. مؤسسة «بيروت انستيتيوت» («معهد بيروت») بمساعدة شريكها «ايه تي كيرني» قدمت هذا الأسبوع توصيات سياسية جريئة نتيجة قمة فريدة من نوعها جمعت بين كبار صنّاع القرار وقادة الجيل الجديد عقدتها في أبو ظبي السنة الماضية.
هذه التوصيات لصنّاع القرار تضمنت خريطة طريق استراتيجية لإعادة تموضع المنطقة العربية وانطوت على خمسة عناصر أساسية هي: وقف النزيف، تكامل وتعزيز النواة الأساسية، اطلاق النمو المحفّز للتغيير الإيجابي، تعزيز التماسك واللحمة المجتمعية، بناء هيكلية للأمن الإقليمي.
وقف النزيف بالغ الضرورة في سوريا -وكذلك اليمن- بالدرجة الأولى، إنما أيضا في ليبيا والعراق. الانطلاق من المسألة السورية والتقويم العربي للسياسات الروسية والأميركية نحوها أمر بديهي سيما أن الأحاديث العربية مع روسيا تشمل عنصر النزيف وهيكلية الأمن الإقليمي. فالشراكة الروسية - الأميركية نحو سوريا قد تتطور إلى شراكات أوسع بما فيها في مجالات إعادة هيكلة الأمن الإقليمي، والحديث بها قد بدأ في عواصم مختلفة. بغض النظر إن تطورت الشراكة أو انحسرت أو زالت، يبقى على المنطقة العربية أن تتفادى أنماط الإنكار ودفن الرؤوس في الرمال أمام المستجدات الدينامية التاريخية. عليها أن تواجه العشوائية الجيوسياسية برؤية واستراتيجية عملية.
وقفة قصيرة عند القراءات العربية المتضاربة للسياسة الروسية تبيّن عمق المشكلة. فمن جهة، اضطرب جزء من أهل الخليج لمجرد سماع جملة مفادها بأن روسيا تنظر إلى علاقتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها استراتيجية وبعيدة المدى. كما نقل هذا المقال الأسبوع الماضي عن مصادر روسية رفيعة المستوى. من جهة أخرى، أفاد ديبلوماسيون معارضون لهذا القول بأن المعلومات لديهم تتناقض في شكل مباشر مع ذلك الطرح وأن معلوماتهم أتت من كبار صنّاع القرار في روسيا.
خلاصة ما يقولونه هو أن العلاقة الروسية - الإيرانية ليست أبدا علاقة استراتيجية دائمة بل هي تنافسية بامتياز حتى في سوريا. يقولون إن التدخل الروسي العسكري في سوريا هو في مصلحة الدول الخليجية العربية لأن ذلك التدخل سحب من ايران الهيمنة على المفاتيح السورية وقطع الطريق أمام استحواذها على البلاد. وبرأيهم هو أن السعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين مستفيدة أيضا من الانخراط العسكري الروسي ميدانيا في سوريا؛ لأنه يتعهد بسحق «داعش» الذي يشكل تهديدا وجوديا لهذه الدول.
إذن، من وجهة نظر هذا الشطر من الديبلوماسية الخليجية، إن التدخل العسكري الروسي في سوريا يفيد دول مجلس التعاون الخليجي من ناحيتين هما: إلحاق الهزيمة بالعدو الداعشي واحتواء توسعية العدو الفارسي.
يتجاهل أصحاب هذا الرأي عمدا عنصرين في هذه المعادلة هما: أولا، إن القصف الروسي يستهدف بالدرجة الأولى حاليا المعارضة المسلحة المعتدلة التي يزعم أهل الخليج أنهم يدعمونها. وثانيا، إن السياسة الروسية وراء التدخل العسكري هي إنقاذ النظام في دمشق من السقوط وإبقاء بشار الأسد في الرئاسة حتى إشعار آخر. يطيب لبعضهم في هذا الصدد، الإصرار -بأكثر شدة مما يفعل الروس- على أن دعم موسكو هو للنظام في دمشق بصفته ركيزة الدولة وليس بالضرورة لبشار الأسد. ويطيب لبعضهم الآخر الإشارة إلى أن موسكو تريد سوريا «مدنية» وليس سوريا ذات الولاء «للشيعة» الفارسية. كل هذا، في نظرهم، يثبت الخلاف الروسي - الإيراني حول سوريا، وبالتالي انه يتعارض مع القول إن روسيا تعتبر علاقاتها مع طهران استراتيجية وبعيدة المدى.
لا ضرورة للغوص في تفنيد هذه القراءات والتفسيرات لجزء من الديبلوماسية العربية. فلعلّ الديبلوماسية الروسية نفسها توزّع الأدوار في رسائلها إلى المنطقة العربية لتكون متضاربة عمدا. ولعل مفهوم الديبلوماسية الروسية لعلاقاتها مع الدول المهمة في المنطقة العربية هو أن بناء علاقة استراتيجية بعيدة المدى مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا يتضارب مع بناء علاقات متطوّرة مع السعودية. مثلا، بغض النظر عن سوء العلاقة السعودية - الإيرانية.
فموسكو لا تريد الاعتراف بأن النظام القائم في طهران هو حكم ديني وأن أحد أهدافه المعلنة هو تصدير الثورة الشيعية إلى الدول العربية. لا تريد الاعتراف مع أنها تعلم جيدا ذلك. والسبب أنها منصبّة تماما على محاربة صعود الإسلاميين السُنَّة إلى السلطة حيث إن ازدياد نفوذهم وتصديرهم أفكارهم الدينية المتطرفة سيصيب روسيا في عقر دارها لأن الأقلية الضخمة داخلها، 20 مليون مسلم، هي سنّية وليست شيعية.
من وجهة نظر مسؤول إماراتي رفيع المستوى، إن المصلحة الروسية تقتضي إقامة أفضل العلاقات وأكثرها استراتيجية مع المملكة العربية السعودية لأن مسلمي العالم يتوجهون إلى مكّة والمدينة. رأيه أن على الديبلوماسية الروسية أن تفكر بأمرين وهي تتمسك بسياساتها في سوريا ونحو ايران: أولا، إن تَصَدّرِها المعركة ضد ما تعتبره إرهابا إسلاميا سنّيا قد يترتب عليه انتقام داخل الصميم الروسي والجيرة المباشرة في الجمهوريات الخمس المسلمة في وسط آسيا. وثانيا، إن تحالفها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية والميليشيات الشيعية في الحرب السورية يعزز الانطباع بأنها في حرب مع السُنّة.
وبالتالي، وكي لا تتورط في حروب سنّية - شيعية، من مصلحة الديبلوماسية الروسية صياغة علاقة مميزة واستراتيجية مع السعودية، وفق المسؤول الإماراتي الرفيع المستوى الذي أضاف أن استقرار المملكة هو شأن داخلي لبلاده ولكل الدول الخليجية العربية وهذا أمر على الديبلوماسية الروسية أن تعيه.
بعض أقطاب الديبلوماسية الروسية يوافق الرأي بضرورة بناء علاقة مع السعودية موازية بالأهمية للعلاقة مع ايران سيما أن السعودية ترحب بتطوير العلاقات مع روسيا. بعضهم الآخر يعتقد بأن لا مناص من الاختيار بين الاثنين -إما طهران أو الرياض- لأن لا مجال للجمع بين العلاقتين. وبالتالي يرى هذا البعض من الأفضل لموسكو أن تحاول لعب دور الوسيط بينهما فيما تستمر في علاقاتها الاستراتيجية البعيدة المدى مع طهران وتسعى إلى تطوير الحوار والعلاقة مع الرياض.
رأي مجموعة من نخبة المفكرين من القطاع الحكومي والقطاع الخاص التي اجتمعت في قمة «بيروت انستيتيورت» هو، كما جاء في التوصيات، «إن العلاقات الثنائية بين المملكة العربية السعودية وإيران تمثل أهم قوة محركة لتطور منطقة الشرق الأوسط جغرافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا. لذلك، فإن بذل جهد جاد وفعال لتنظيم حوار مستمر بين هاتين القوتين يُعَّد ضرورة ملحّة للمنطقة وللعالم بأسره».