من الصعب أن تفصل بين نتائج أزمة الطائرة الروسية المنكوبة (نهاية أكتوبر 2015)، وأزمة اختفاء وتعذيب وقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني (25 يناير 2016).. وبين نتائج حشود الأطباء الضخمة وغير المسبوقة في تاريخهم (12/2/2016).. وكذلك حصار أهالي الدرب الأحمر لمديرية أمن القاهرة (18/2/2016) احتجاجا على الانتهاكات الأمنية.
القواسم المشتركة بينها، قد تبدو في بعضها متعسرة، ولكن في التفاصيل، قد نجد لها حضورا، وفي المحصلة فهي تضع يدها على أصل الأزمة وخطورتها على المستقبل الوجودي للدولة.. وأقول "المستقبل ـ وجود الدولة" ليس تعسفا مني في تقدير الموقف، ولكنها الحقيقة التي سنصطدم بها، حال استمر الاسترخاء الرسمي للسلطة، واعتمادها على منطق الاستغفال، والدعاية لإنجازات، فقد المجتمع ثقته في جديتها.
ففي أزمة الطائرة الروسية، فإن المجتمع الدولي، لم يثق في الرواية المصرية، وتولى بنفسه التحقيق.. وكذلك في أزمة ريجيني، لم تثق إيطاليا في مرفقي العدالة والأمن المصريين، وتولت بنفسها استجلاء حقيقة اختطافه وتعذيبه وقتله.. واتخذت من الإجراءات ما اعتبر ماسا بالسيادة الوطنية المصرية.
الموقف الروسي والإيطالي، وعواصم غربية، أسست موقفها على سمعة مصر التي تدهورت بشكل خطير فيما يتعلق بالانتهاكات الأمنية، ودخول مرفق العدالة طرفا في الصراعات السياسية، وما ترتب عليه من إصدار أحكام، كانت محل إدانات دولية واسعة.
الدرس الذي ربما تغفله السلطة، هو أنه لا يمكن فصل مفهوم السيادة الوطنية عن نظرة المجتمع الدولي وثقته في الأمن والقضاء.. إذ لم يعد هذان المرفقان، مسألة محلية محضة، وإنما يتقاطعان عند نقطة الحفاظ على السيادة ومنع التدخل الأجنبي في شؤون الدولة.. فيما سيفضي غياب ثقة العالم فيهما، إلى وضع البلد في بؤرة الاستهداف الخارجي: طلب تعويضات مالية ضخمة (فقر)، محاكمة المسؤولين أمام المحاكم الدولية (إهانة على مستوى العالم).. وقد تؤدي عند مرحلة ما، إلى التدخل العسكري المباشر (ضياع الدولة).
هذه الاحتمالات لن تبتعد كثيرا، عن احتجاجات الأطباء وحصار الأهالي مبنى مديرية أمن القاهرة، فهما يأتيان في السياق ذاته: فقدان الثقة في مرفقي الأمن والعدالة! فالأطباء تعرضوا للاعتداءات الأمنية، ثم للابتزاز: إما التنازل أو الحبس.. ثم أطلق سراح الأمناء التسعة.. في الدرب الأحمر، قتل أمين شرطة مواطنا، ثم صدرت تصريحات للقادة الأمنيين تبرر القتل وتخفي الأمين القاتل وتتستر عليه!!
النتيجة: البحث عن محاولة لأخذ الحق بالذراع!! وهو شعور جماعي خطير، حين تفقد الثقة في الأمن والعدالة، فإنك ستضطر إلى أخذ حقك بالقوة خارج القانون.. إنها الفوضى والاحتراب الداخلي.. أول خطوة تقرب إلى عتبة "الدولة الفاشلة". لا يكفي أن تعترف السلطة بأن العدالة والأمن في مصر في محنة حقيقية وخطيرة.. فهي لا تنقصها المعرفة، ولكن ينقصها التخلي عن عقيدة أن هيبة الدولة تأتي بعصا الشرطة، وبإهدار العدالة.. وتتبدل هذه العقيدة بأخرى تؤمن بأن الانتهاكات الممنهجة والمنظمة واليومية، تحت غطاء سياسي رسمي يحميها، وعدالة لا يثق فيها الناس، لن تحافظ على هيبة الدولة.. وإنما ستهدر الهيبة ثم ستفكك الدولة.