تشهد منطقة الخليج نوعين من التحولات سيكون لهما تأثيرات عميقة في الأوضاع الراهنة والمستقبلية للنظام الإقليمي العربي عموما، وللدول العربية الواقعة في هذه المنطقة، على وجه الخصوص.
النوع الأول: تحولات تمس موازين القوى الإقليمية، ولها أسباب عديدة، ربما كان أهمها التنامي الملحوظ في قوة إيران على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، بخاصة بعد التوصل إلى اتفاق حول برنامجها النووي مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن مضافا إليها ألمانيا.
ولأن إيران كانت حتى وقت قريب دولة محاصرة بالعقوبات، وبالتالي معزولة عالميا إلى حد كبير، فمن الطبيعي أن يؤدي تطبيع علاقتها مع المجتمع الدولي إلى إزالة العقبات كافة التي كانت تعترض طريق تغلغل نفوذها أكثر داخل محيطها الإقليمي، وهو ما يثير أشد القلق والمخاوف لدى الدول العربية المجاورة.
الثاني: تحولات تمس موازين القوى العالمية، وهي تحولات لها أسباب عدة أيضا، ربما كان أهمها تراجع الوزن النسبي لقوة ومكانة الولايات المتحدة في النظام العالمي، مصحوبا بتراجع بعض أسباب ومحددات الاهتمام الأميركي بمنطقة الشرق الأوسط، بما فيها منطقة الخليج، وهو تراجع قد يضطر الولايات المتحدة إلى تقليص بعض مظاهر تواجدها ودرجة انغماسها في شؤون هذه المنطقة برمتها، تاركة وراءها فراغا يغري قوى دولية وإقليمية أخرى بالتقدم لملئه. ومن الطبيعي أن يثير هذا التطور في موازين القوى العالمية قلقا أشد لدى دول الخليج العربية.
من الطبيعي أن تطرح هذه التحولات تساؤلات جادة حول تأثيراتها المستقبلية المحتملة في استقرار منطقة الخليج، وما إذا كانت الدول العربية الواقعة في تلك المنطقة، تملك من القدرات ومن المهارة الديبلوماسية والحنكة ومن الإرادة السياسية ما يجعلها قادرة على التعامل بكفاءة مع أعاصير هوجاء بدأت تهب بعنف على المنطقة وتهدد باقتلاع مرتكزات الاستقرار فيها. وهو ما يفرض على صناع القرار، وعلى وسائل وأدوات تشكيل الرأي العام ومراكز التفكير الاستراتيجي في دول الخليج العربي الاهتمام بتشخيص طبيعة هذه التحولات ودراسة تأثيراتها الفعلية في موازين القوى في المنطقة وما يتعين اتخاذه من إجراءات وقرارات عاجلة أو آجلة لإنقاذ مستقبل يبدو مهددا بالضياع.
كانت دول الخليج العربي قد اعتادت على مدى عقود طويلة أن تلجأ إلى وسيلتين متكاملتين لمواجهة الأخطار التي قد تشكل تهديدا لأمنها الوطني.
الوسيلة الأولى: البحث عن مظلة أمنية تكفل تقديم الحماية المطلوبة عند الحاجة، من خلال إبرام ترتيبات خاصة مع إحدى القوى العظمى، مقابل حصول هذه الأخيرة على مكاسب عسكرية وسياسية واقتصادية تنوعت وتعددت أشكالها: قواعد أو تسهيلات عسكرية، صفقات سلاح ضخمة، امتيازات نفطية مجزية، استثمارات مالية مباشرة أو غير مباشرة...الخ. ساعد على توفير هذه الوسيلة دخول النظام العالمي مرحلة جديدة بعد الحرب العالمية الثانية اتسمت بالقطبية الثنائية.
وهذا ما أتاح أمام الدول المحدودة القدرات، ومنها العديد من الدول العربية في منطقة الخليج، هامشا أكبر من حرية الحركة والمناورة مكَّنها من الإفلات من حصار أو وصاية الدول القوية المجاورة، وذلك عبر مد الجسور لعلاقة استراتيجية خاصة مع الولايات المتحدة الأميركية. وعندما خرجت الولايات المتحدة من الحرب الباردة منتصرة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، بدت دول الخليج العربي وكأنها راهنت على الحصان الفائز في السباق الدولي وتصورت أنها دخلت بالتالي ضمن مجموعة الدول المؤهلة للحصول على جوائز ومكافآت في النظام الدولي الجديد بعد أن أصبح أحادي القطبية.
غير أنه سرعان ما تبين أن هذا الاعتقاد لم يكن سوى وهم كبير، خصوصا بعد أن اكتشفت هذه الدول متأخرة أن حصتها من الثمن الذي دفع لضمان انتصار المعسكر الغربي في الحرب الباردة، وهو تدمير العراق، كان باهظا وترتب عليه خلل كبير في موازين القوى في المنطقة عانت ولا تزال تعاني منه الدول العربية كلها.
الوسيلة الثانية: استخدام وفوراتها المالية الهائلة لشراء ولاءات سياسية، وللتعامل مع بعض أنواع الابتزازات أو المزايدات أو الأطماع التي كثيرا ما تعرضت لها، ولإطفاء حرائق أو حل أزمات خشيت من آثارها السلبية المحتملة التي قد تنجم عن احتمال تمددها وانتشارها في المنطقة، أو حتى لإثارة مشكلات وقلاقل لقوى إقليمية ودولية مارست عليها ضغوطا أو تبنت سياسات اعتبرتها معادية أو ضارة بأمنها الوطني.
غير أن التقلبات الحادة في أسعار النفط، وهي تقلبات دورية وأحيانا مفاجئة لا تستطيع التحكم فيها، كشفت محدودية تأثيرها وبالتالي صعوبة وربما خطورة الاعتماد على هذه الوسيلة بدرجة كبيرة.
كشف سقوط العراق وتحوله إلى دولة فاشلة، من ناحية، وإحجام الولايات المتحدة الأميركية عن الزج بقواتها المسلحة لتأمين مصالح حلفائها في المنطقة، من ناحية أخرى، عن بعض مظاهر الخلل البنيوي والاستراتيجي في موازين القوى في المنطقة، ودفع بدول مثل السعودية والإمارات العربية المتحدة لاتخاذ مبادرات ما كانت لتخطر على بال أحد من قبل، فلم تتردد السعودية في التدخل عسكريا في الأزمة اليمنية وتقود بنفسها منذ عام تحالفا عسكريا ضد الحوثيين وقوات علي عبد الله صالح تشارك فيه دولة الإمارات بهمة كبيرة.
ومنذ أيام، أبدت السعودية والإمارات استعدادهما لوضع قوات برية كبيرة تحت تصرف تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة الأميركية للقيام بعمليات عسكرية مباشرة داخل الأراضي السورية.
أثار هذا التطور الملحوظ في سياسات الدول العربية الخليجية تعليقات عدة من جانب عدد من الكتاب والمحللين العرب. وبدلا من تحليل أسباب ودوافع هذا التطور ورصد نتائجه وتأثيراته المحتملة في مستقبل المنطقة العربية، راح هؤلاء الكتاب والمحللون يركزون جهدهم على بعد آخر، أعتقد بأنه ثانوي، يدور حول الأطراف المؤهلة حاليا لقيادة العالمين العربي والإسلامي. فمن قائل إنه يعني «انتقال مركز الثقل السياسي في العالمين العربي والإسلامي إلى دول الخليج العربي»، ومن قائل إنه «يجسد لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر»، ومن قائل إنه يعني «انتقال القرار العربي من دول الماء إلى دول النفط»... الخ.
لا يتسع المقام هنا لتحليل فاعلية المبادرات السعودية والإماراتية وتأثيراتها المحتملة في الأوضاع في المنطقة العربية ومسار الأزمات المشتعلة فيها، بخاصة في سورية واليمن. كما لا يتسع المقام هنا لحديث مفصل عن قضية القيادة في النظام العربي، وهي قضية معقدة تستحق معالجة أكثر جدية.
غير أن حقائق الأوضاع على الأرض تشير إلى أن النظام العربي أشبه بسفينة تتقاذفها الأمواج في عرض بحر هائج بلا دفَّة أو بوصلة توجهها، وبالتالي هو نظام بلا قيادة وسفينة تائهة بلا قبطان. وذلك لسبب بسيط وهو أن كل دولة في العالم العربي لا تزال تتصرف وفق رؤية ضيقة وأنانية لمصالحها الوطنية، أو بمعنى أدق وفق رؤية تتمحور حول مصالح النخبة الحاكمة فيها. وما يصدق على النظام الإقليمي العربي ككل يصدق بالقدر نفسه، وباستخدام المقاييس نفسها، على دول مجلس التعاون الخليجي التي لم تنجح حتى هذه اللحظة في إقامة نظام فرعي يحقق لها أمنا جماعيا.
لقد فرضت متطلبات تحقيق التوازن الاستراتيجي في منطقة الخليج أن تبذل كل الدول العربية المشاطئة، بما فيها العراق، أقصى ما تستطيع من جهد للتوصل إلى أفضل صيغة تكاملية تمكنها من التحرك ككتلة واحدة في مواجهة إيران، بصرف النظر عن طبيعة النظام الحاكم في هذه الدولة الجارة والمسلمة، مع الحرص في الوقت نفسه على إقامة علاقات تعاونية تقوم على التكافؤ والندية ومراعاة حسن الجوار. غير أن المشروعات التي استهدفت تحقيق التكامل في هذه المنطقة ظلت قاصرة وعاجزة.
وربما تكون تجربة تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة هي أنجح تجارب التكامل العربي حتى الآن، على رغم ما انطوت عليه من بعض أوجه القصور. فقد عجزت هذه التجربة الناجحة، من ناحية، عن استيعاب دولة قطر في إطارها، كما عجزت، من ناحية أخرى، عن أن تصبح نموذجا يحتذى من جانب مجلس التعاون الخليجي الذي لم يستطع حتى الآن أن يفرض نفسه كتجربة تكاملية ناجحة ومؤثرة.
ويكفي أن نتذكر ما مرَّ به المجلس من أزمات، التي كان آخرها قطع ثلاث من الدول الأعضاء علاقاتها الديبلوماسية مع دولة رابعة هي قطر بسبب غياب رؤية عربية خليجية مشتركة لطبيعة الأزمة السياسية التي أطاحت حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013. ومن المؤكد أن عجز دول مجلس التعاون الخليجي عن حماية العراق من السقوط وعن صيانة عروبته، بصرف النظر عن حماقات صدام ومسؤوليته عما جرى، عرَّض الأمن الجماعي لدول مجلس التعاون الخليجي لأخطار جسيمة يصعب أن يتصدى لها بمفرده.
عن صحيفة الحياة اللندنية
3
شارك
التعليقات (3)
غبده
الخميس، 18-02-201611:57 ص
فقدت مصداقيتك لطالما كنا نصدق ركبت سفينة الغدر مع الخونه والعملاء
ابو عمر
الأربعاء، 17-02-201605:18 م
لماذا لا تكتب عن بطولاتك ودورك الحقير في شق الصف المصري واستئسادك على مرسي ، يا صاحب الدور الوضيع