شهد العالم خلال الأسابيع الماضية موجة ثانية من تراجع أسعار النفط، حيث تزايدت الضغوط على الأسعار بفعل تراجع النشاط الاقتصادي الصيني وارتفاع قيمة الدولار حتى دخل سعر البرميل من خام برنت نطاق الـ26 دولارا للبرميل، وهي أسعار لم يشهدها العالم منذ فترة طويلة، وتزايدت التوقعات بتراجع أسعار النفط ربما إلى نطاق العشرة دولارات للبرميل.
من المفترض من الناحية النظرية أن يكون لانخفاض أسعار النفط أثر إيجابي في العالم، بصفة خاصة الدول المستهلكة، حيث يصاحبها انخفاض في أسعار الغاز، وتنخفض بالتالي تكلفة توليد الطاقة، ومن ثم ينخفض المستوى العام للأسعار وتتراجع معدلات التضخم، وبالتالي من المفترض أن ترتفع معدلات النمو العالمي مع تراجع أسعار النفط.
على العكس من هذه المسلمات النظرية تحول انخفاض أسعار النفط في الأيام الأخيرة إلى مصدر للخطر على توازن الاقتصاد العالمي ومعدلات نموه. إلى حد أن بعض المراقبين يعتقد أن تأثيرات أسعار النفط المنخفضة على قطاع الطاقة الأمريكي ربما ترسل الاقتصاد الأمريكي مرة أخرى إلى الكساد، إلى حد يصعب التعامل معه، خصوصا إذا ما كان تراجع أسعار النفط يعكس ضعف الأداء الاقتصادي عالميا.
تأثيرات تراجع أسعار النفط في الدول المصدرة لا شك واضحة ولا تحتاج إلى معالجة، فنحن نعيشها يوما بيوم في الوقت الحالي وندرك آثارها جيدا في الإنفاق الحكومي والعجوزات المالية ومعدلات إدراج المشاريع الجديدة وعلى بورصات الأسهم وتوقعات المتعاملين فيها، فضلا عن آثارها السلبية في أسواق العقار وتوقعات المستهلكين ورجال الأعمال. أكثر من ذلك فإن استمرار تراجع أسعار النفط يهدد الدول النفطية بتراجع ثرواتها الخارجية وانخفاض أصولها بمعدلات سريعة، بالنظر إلى ضخامة عجوزاتها المالية.
اليوم أتناول مخاطر تراجع أسعار النفط على الدول الصناعية المستوردة للنفط. لا شك أن أهم تأثيرات تراجع أسعار النفط هو أثرها السلبي في معدلات التضخم في الدول الصناعية. على سبيل المثال فإن معدل التضخم المستهدف للبنك المركزي الأوروبي يساوي 2 في المئة، بينما معدلات التضخم حاليا أقل بكثير من 1 في المئة في المتوسط.
ووفقا لآخر البيانات المتاحة من مكتب الإحصاءات الأوروبي، فقد بلغ معدل التضخم في شهر يناير الماضي في منطقة اليورو 0.4 في المئة، مرتفعا من 0.2 في كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وقد كان من المفترض أن يصل معدل التضخم دون أسعار مجموعة الطاقة إلى 1.1 في المئة، لكن تراجع معدل تضخم أسعار مجموعة الطاقة البالع 5.3 في المئة تسبب في تراجع التضخم إلى هذه المستويات المنخفضة.
كذلك تشير بيانات أسعار المنتجين الصناعيين في المنطقة إلى تراجع أسعار السلع الصناعية بنسبة 0.8 في المئة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، مقارنة بأسعارها في الشهر السابق عليه، وهو تطور خطير، تتزايد معه احتمالات السقوط في مصيدة انحسار الأسعار.
في كلمة له في البنك المركزي الألماني أشار دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي، إلى أنه سيستمر في محاربة تراجع معدلات التضخم في المنطقة، وقد حذر من أن تراجع أسعار النفط قد يعيد التضخم إلى نطاق التضخم السالب مرة أخرى في المنطقة، وأن البنك يفكر في مد عمليات التيسير الكمي لمواجهة مخاطر تراجع التضخم السالب الذي عانته المنطقة لعدة أشهر في 2014/2015.
من جانب آخر، فإن بيانات مكتب العمل الأمريكي تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي يحقق معدلات تضخم سالبة منذ تموز (يوليو) الماضي، باستثناء تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وهو أحد جوانب القلق الأساسية لدى الاحتياطي الفيدرالي في الوقت الحالي. القلق نفسه يواجهه البنك المركزي الياباني في الوقت الحالي من انخفاض معدلات التضخم إلى الحد الذي دفعه إلى خفض معدلات الفائدة إلى النطاق السالب، وهو الموضوع الذي تناولناه بالتحليل في الأسبوع الماضي.
مشكلة التضخم المنخفض أو السالب تتمثل في آثاره السلبية في معدلات زيادة الأجور، فالدول الصناعية تتعرض للآثار السلبية لتراجع أسعار النفط على معدلات نمو الأجور فيها، وهي إحدى المشكلات التي تواجهها أوروبا في الوقت الحالي، وتعانيها اليابان كذلك على الرغم من انخفاض معدل البطالة في الولايات المتحدة فإن النمو في الأجور جاء منخفضا. تراجع النمو في الأجور يتسبب في تراجع النمو في مستويات الدخول ومن ثم الإنفاق والطلب الكلي، وبالتالي حدوث انحسار في النشاط الاقتصادي.
أخيرا استغل الرئيس أوباما تراجع أسعار النفط باقتراح فرض ضريبة على الشركات الأمريكية المنتجة للنفط، بمعدل عشرة دولارات للبرميل، وذلك لتمويل أجندته البيئية، يتوقع أن يترتب عليها تحصيل نحو 32 مليار دولار سنويا من الشركات المنتجة للنفط وذلك ابتداء من 2017، وبغض النظر عن الآثار المالية للضريبة، فإن مخاطر فرض هذه الضريبة على الشركات الأمريكية تتمثل في أن الخطوة التي ستليها هي فرض الضريبة ذاتها على النفط المستورد والمنتج في الخارج.
أكثر من ذلك، فمن المتوقع عندما تفرض الولايات المتحدة الضريبة أن تحذو باقي دول العالم الصناعي المستوردة للنفط حذوها بفرض ضريبة مماثلة، وهو ما قد يترتب عليه آثار سلبية في استهلاك النفط في العالم وانتشار بدائله، خصوصا عندما تأخذ أسعار النفط في الارتفاع مرة أخرى.
أكثر من ذلك فإن المخاوف تتزايد اليوم من أن تنتقل تأثيرات تراجع أسعار النفط من القطاع الصناعي النفطي في العالم إلى أسواق المال فيه. على سبيل المثال ترتفع حاليا معدلات العائد على السندات التي تصدرها شركات الطاقة الأمريكية نتيجة تراجع معدلات النشاط في الصناعة وارتفاع مخاطر التوقف عن خدمة هذه الديون، وهو ما يرفع من تكلفة الإنتاج بشكل عام مع ارتفاع تكلفة التمويل وصعوبته.
مع تراجع الاستثمارات في القطاع النفطي، واستمرار عمليات فصل العمال في قطاع التعدين الأمريكي منذ أشهر طويلة تتأثر قدرة سوق العمل الأمريكي على فتح المزيد من الوظائف لخفض معدلات البطالة، ويتضح ذلك من متابعة تقارير سوق العمل الأمريكي في الأشهر الأخيرة. الأمر الذي أصبح يؤثر حاليا في قرارات الاحتياطي الفيدرالي بتطبيع السياسة النقدية ورفع معدلات الفائدة إلى مستويات ما قبل الأزمة مرة أخرى، وهي تأثيرات لم يكن من المتوقع أن يكون لها هذا الأثر في الاقتصاد الأمريكي مع تراجع أسعار النفط.
كذلك فإنه مع تراجع أسعار النفط تتراجع أسهم شركات إنتاج الطاقة ما ينعكس على مؤشرات أسعار الأسهم في أسواق الأوراق المالية على النحو الذي يؤدي إلى إشاعة حالة من التوقعات التشاؤمية بين رجال الأعمال، ومن ثم اتجاهاتهم نحو الاستثمار.
من الطبيعي في ظل هذه الأوضاع أن يفضل المستثمرون أدوات الاستثمار ذات الملاذ الآمن، وعلى رأسها السندات الأمريكية فترتفع أسعارها وتقل معدلات العائد عليها، ويزداد الطلب على الدولار فترتفع قيمته أمام عملات العالم، وتتراجع تنافسية الشركات الأمريكية وتنخفض معدلات النمو نتيجة لذلك. فوفقا للرقم القياسي للاحتياطي الفيدرالي للإنتاج الصناعي الأمريكي، فقد تراجع الإنتاج الصناعي الأمريكي في كانون الأول (ديسمبر) بنسبة 1.8 في المئة، وهو التراجع الذي ينذر باحتمالات عودة الكساد مرة أخرى.
باختصار فإن تراجع أسعار النفط يحمل آثارا إيجابية في العالم حتى مستويات معينة، بعدها يتحول تراجع أسعار النفط إلى مؤثر سالب في النشاط الاقتصادي العالمي. ففي الأيام الأخيرة ومع استمرار تراجع أسعار النفط إلى مستويات لم يراها العالم منذ فترة طويلة بدأ القلق يتصاعد من استمرار تراجع أسعار النفط وتأثيراته السلبية حول العالم.