لا تخفي روسيا أهدافها في حربها السورية، ولا تتنصّل من تحالفاتها مع إيران وميليشياتها ومع نظام بشار الأسد. موسكو قررت منذ البداية أن الحرب في سوريا هي الحرب الروسية على «الإرهاب الإسلامي»، ولن تتوقف عنها قبل إعلان الانتصار. وبقرار من رئيسها فلاديمير بوتين لن تتقهقر روسيا في الساحة السورية مهما كلفتها هذه المعركة ومهما حصدت من أرواح سورية. فهي باتت حربا وجودية منذ أن اندلع ما سمي «الربيع العربي» ودفع الإسلاميين إلى السلطة، الأمر الذي وجدت فيه موسكو تهديدا قوميا لها ولمصالحها الاستراتيجية.
تحالفها مع طهران يتعدى مجرد توافقهما على تثبيت بشار الأسد في السلطة، إذ إن موسكو تعتبر الإرهاب الإسلامي سنيا محضا وتجد في الحليف الشيعي سندا لا غنى عنه في الحرب على «الإرهاب السني»، كما تراه. مغامرتها في خوض حرب سوريا أتت أيضا بناء على استنتاجاتها بأن الولايات المتحدة توافقها الرأي ضمنا، وهي شريك صامت معها، وعند الحاجة واشنطن جاهزة لهزّ العصا وقلب المعادلات.
وهذا تماما ما حدث خلال أسبوع جولة المفاوضات الأولى بين وفد النظام في دمشق ووفد المعارضة السورية بموجب «عملية فيينا» ذات الملكية الروسية والتنفيذ الدولي. فلقد رافقت مساعي بدء المفاوضات عمليات قصف مكثفة للطيران الروسي على مواقع المعارضة السورية رفضت موسكو إيقافها، بل أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف أن روسيا لن تتوقف عن القصف في سوريا حتى هزيمة «الإرهابيين».
إدارة أوباما ما زالت في ظل انبهارها بإيران وهي متأهبة لغض النظر عن كل ما يمكن لها تمريره بلا محاسبة لإيران داخل سوريا، إرضاء لموسكو فيما أنظارها منصبة على الانتخابات الإيرانية والمعركة الطاحنة بين المعتدلين من الملالي والمتشددين منهم بزخم «الحرس الثوري» الذي يشرف على الحرب الإيرانية في سورية. هذه الانتخابات بالغة الأهمية ومن الضروري التوقف عندها لقراءة ما في طيّاتها لإيران نفسها كما للعلاقات الإيرانية – السعودية وللمشاريع والطموحات الإقليمية كما يراها المعتدلون والمتشددون في إيران.
قبل ذلك، وتوقفا عند محطة جنيف الأولى في عملية فيينا، حسنا فعلت الهيئة العليا للمفاوضات السورية بتوجهها إلى جنيف تلبية لدعوة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بغض النظر أن أتت المشاركة مبعثرة أو رضوخا لضغوط أميركية وإقليمية. لقد تمكنت بوجودها في جنيف من تسليط الأضواء على تصعيد القصف الروسي بتزامن مع التصعيد الديبلوماسي، من خلال مغالاة وفود المعارضة الموالية للنظام ومن خلال الوفد الرسمي للنظام الذي جعل من جولة المفاوضات فرصة للسخرية بدلا من إبداء الجدية لنقل سوريا من الكارثة إلى المعافاة.
إعلان دي ميستورا تعليق المفاوضات لثلاثة أسابيع قبل انطلاقها يعكس صعوبة إطلاق المفاوضات، وسط استراتيجية تصعيد القصف الميداني والضغط السياسي على المعارضة السورية. استراتيجية التعجيز هذه كان يجب أن تلقى مواقف شجاعة من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومبعوثه ستيفان دي ميستورا، في دعوة علنية واضحة لروسيا للكف عن هذه الاستراتيجية. كلاهما تقاعس فيما كان عليهما الإقدام من أجل إنجاح جهود الأمم المتحدة ومن أجل إبعاد التهمة التي تلاحقهما بأنهما يغضّان النظر عن التجاوزات الإيرانية والروسية وتجاوزات النظام بصورة تقوّض الثقة بحيادهما وبقدرة الأمين العام على القيادة الأخلاقية.
واقع الأمر أن روسيا وإيران هما طرفان مباشران في الحرب السورية. بالمقابل، إن الداعمين للمعارضة السورية يتنصّلون منها عسكريا وسياسيا بذريعة «داعش» و «جبهة النصرة» تارة وبحجة إنجاح المفاوضات السياسية تارة أخرى.
خلاصة الأمر أن الولايات المتحدة حيّدت نفسها في الحرب السورية، ميدانيا، وأعطت الغطاء لروسيا وإيران للتصرف كما تقتضي الحاجة في سورية، والدول الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية تقدم دعما هزيلا لها مقارنة بالدعم الروسي الإيراني للنظام ميدانيا وسياسيا وديبلوماسيا.
موازين القوى، ميدانيا، تزداد تكريسا لاحتمالات تقسيم سوريا وبقاء بشار الأسد في كرسي ما. البرنامج الذي وضعته «المجموعة الدولية لدعم سورية» للمرحلة الانتقالية «مفرط في التفاؤل» وفق دي ميستورا، كما جاء في وثيقة نشرتها «الحياة». فهو اعتبر أنه من غير الممكن إجراء الانتخابات بعد 18 شهرا أي بحلول كانون الثاني (يناير) 2018. وهذا يعني أن البرنامج الزمني سيطول في حال كان سلميا، وأن البرنامج الزمني الفعلي في غياب الحل السياسي سيطيل الحرب السورية كثيرا. وهذا سيزيد تورط روسيا وإيران في مستنقع مكلف جدا لاسيما في زمن انخفاض أسعار النفط والغاز وانهيار قيمة العملة الروسية وفي زمن الامتناع الأميركي عن التورط ميدانيا وتشجيع الآخرين على التدخل إذا شاؤوا.
واشنطن ليست في وارد إيقاف طهران أو موسكو عن تحالفهما في سوريا ولا هي في وارد التدخل في استراتيجية روسيا القائمة على تغيير موازين القوى على الأرض لمصلحة النظام وعلى حساب المعارضة السورية المسلحة التي تزعم إدارة أوباما أنها تدعمها. إدارة أوباما مصرّة على توطيد التهادن مع إيران وتقول أنها تراهن على صفوف الاعتدال لتنقل السياسة الإيرانية إلى سياسة ودّية نحو الولايات المتحدة. إنها غير قلقة من العلاقة التحالفية بين موسكو وطهران ولا يقلقها تمويل روسيا مشاريع اقتصادية نووية في إيران. فالكعكة الإيرانية، وفق الفكر الأميركي، ستكون لاحقا جاهزة للاستفادة منها، ولا عجلة الآن سوى للاستثمار في إيران استراتيجيا ومراقبة الانتخابات.
الانتخابات الإيرانية ستحصل في 26 الشهر الجاري، إنما النتائج لن تُعرف، على الأرجح، قبل مضي 6 أسابيع بسبب عيد «النوروز» الذي يعطّل تقليديا البلاد. سينتخب الإيرانيون نوّاب «مجلس الشورى» الذي يملك المتشددون فيه حاليا حوالى 200 مقعد من أصل 295، وأعضاء «مجلس الخبراء» الذي ينتخب مرشد الجمهورية الإسلامية الجديد.
المرشد الحالي علي خامنئي أمضى حوالى 25 سنة في السلطة بين رئيس ومرشد للجمهورية، وهو كما يقول الخبراء، مريض بالسرطان درجة رابعة ويخضع للعلاج على أيدي إيرانيين وألمان. وخامنئي تحدث لأول مرة، قبل شهرين تقريبا، عن قيام المجلس بانتخاب خليفته مما فُسِّر بأنه إشارة إلى ضعف وضعه الصحي.
يتشكّل «مجلس الخبراء» من 88 شخصا علماء بالفقه ويتم انتخابه لمدة 8 سنوات من قِبَل الشعب وذلك في يوم انتخاب مجلس الشورى. كان الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني يرأس «مجلس الخبراء» ثم أُبعِدَ عن الرئاسة لمصلحة محمد جنتي الذي توفي وخَلفه محمد يزدي. ويعتبر مجلس خبراء القيادة الإيرانية الهيئة الأساسية في النظام.
وفق خبير وثيق الاطلاع بالداخل الإيراني، إن الصراع على خلافة خامنئي يقع بين المتشددين الذين يرون في اقتراح تعيين «هيئة» تخلف المرشد إضعافا لولاية الفقيه. «الحرس الثوري» رفض قطعا ما من شأنه تقليص نفوذ ولاية الفقيه وهو يخوض معركة طاحنة مع المعتدلين.
معسكر المعتدلين يضم هاشمي رفسنجاني والرئيس الحالي حسن روحاني وكذلك حسن الخميني حفيد الخميني، ويسمى معسكر الوسطيين. الإصلاحيون، ومن أبرزهم الرئيس السابق محمد خاتمي، يقفون مع معسكر المعتدلين والوسطيين.
معسكر المتشددين يملك حاليا مفاتيح السلطة وقائده الحقيقي هو خامنئي. من أصل حوالى 200 نائب لمصلحة المتشددين، هناك، وفق الخبير نفسه، كتلة يُطلَق عليها اسم «كتلة الصخرة» وتضم حوالى 80 نائبا وهي الكتلة التي تمثّل عمليا «الحرس الثوري».
موضع مهم في الصراع بين المعسكرين هو «مجلس صيانة الدستور» الذي يعيّن أعضاءه خامنئي ويضم 6 مدنيين و6 رجال الدين واسمه في إيران، وفق الخبير، «المصفاة»، إذ إن النظام يستخدمه لإبعاد من لا يريده عن السلطة. «المصفاة» أبعدت عددا كبيرا من المرشحين الإصلاحيين منهم حسن الخميني الذي رفض دخول امتحان الفقه لأنه أكثر كفاءة ممّن يمتحنه لأنه يدرّس الفقه لآيات الله.
الخبراء يقولون إن من المستحيل أن يحصل رفسنجاني على منصب ولاية الفقيه لأنه صدامي، وهو نفسه يقول إنه ليس مهتما بالفشل وإنما بالحصول على أكثر من مليون صوت ليكون صاحب السلطة الشعبية. يضيف الخبراء أن للرئيس الحالي حسن روحاني الحظ في أن يصبح خليفة خامنئي كمرشد للجمهورية. فإذا تقرر ذلك، يستقيل حسن روحاني من الرئاسة ويتم انتخاب رئيس جديد. وللسجل، يذكر الخبراء أن الأسماء الثلاثة الأخرى التي يتم تداولها كخليفة محتمل في موقع المرشد هي: آية الله جوادي آملي، آية الله صادق لاريجاني، وآية الله محمود الهاشمي الشاهرودي، وهو، كما يُقال الأهم علما إنما مشكلته أنه يخفي «ويُلحِن». ويذكر أيضا اسم آية الله محمد مصباح يزدي الذي يُعتبر متشددا للغاية.
يقول الخبراء إنه لو عاد الأمر إلى الإصلاحيين فإنهم يريدون رفسنجاني رئيسا لـ«مجلس الخبراء» الذي ينتخب مرشد الجمهورية. رفسنجاني هو حاليا رئيس «مجلس تشخيص مصلحة النظام» الذي يعالج الخلافات، مثل تلك التي بين «مجلس صيانة الدستور» و «مجلس الخبراء».
عاد الرئيس حسن روحاني من باريس بعد جولة أوروبية. وكتب زملاء في مقارنة بين عودة الخميني من باريس في أول شباط (فبراير) إلى طهران متأبطا خط الثورة. روحاني قوي شعبيا، بل هو ربما الأقوى في إيران. خبراته في مواقع القرار منذ أن ترأس وفد المفاوضات النووية مع الأمريكيين عام 2003 وقطع بذلك الطريق على أي غزو أمريكي أو إسرائيلي، إلى وصوله للرئاسة جعلت منه لدى أكثرية الرأي المحلي والإقليمي والدولي رجل دولة.
الذين يعرفونه عن كثب يؤكدون أن فكر حسن روحاني يصب في الخطوط الاستراتيجية للدولة الإيرانية، عكس شهية قادة خط الثورة الإيرانية للهيمنة الإقليمية.
فإذا أسفرت الانتخابات الإيرانية عن صوت واضح للشعب الإيراني بأنه يريد خط الدولة، ستحدث نقلة نوعية في المسيرة الإيرانية، لاسيما بعدما تمكّن الاعتداليون والإصلاحيون من إنجاز «اتفاق نووي» تاريخي رفع العقوبات عن إيران ومكّن رئيسها من جولة أوروبية عاد إلى شعبه منها بعقود مهمة لعملية البناء وليس بوعود عنترية عنوانها التدمير والدمار.