اقتحام قوات الأمن لمكتب فني أمس وإلقاء القبض على رسام الكاريكاتير الشاب إسلام جاويش أثار موجة من الغضب الشديد الممزوجة بالسخرية في أوساط عديدة، حتى تلك التي تتعاطف تقليديا مع المواقف الحكومية وتنحاز للرئيس عبد الفتاح السيسي، اعتقال جاويش كان بالغ الغرابة بالفعل، ولا مبرر له على الإطلاق، لا أقول مبرر قانوني أو أمني فقط، بل ولا مبرر سياسي، لأن رسام الكاريكاتير الشاب لا يفعل أكثر مما يفعله آلاف الشبان غيره من المؤمنين بثورة يناير وأهدافها من ممارسات نقدية عادية وسلمية وبسيطة، كما أن رسوماته المنشورة من الواضح أنها تلتزم بحد أدنى من اللياقة، وهناك غيرها كثير يتجاوز كل لياقة، فما معنى أن يتم استهداف هذا الشاب بغارة أمنية من عدة لواءات وقيادات أمنية كما لو كان إرهابيا مدججا بالسلاح أو يتزنر بحزام ناسف، وفي غالب الأمر سيتم إطلاق سراحه، لأن الاتهامات الموجهة إليه يفهمها الرأي العام على أنها "تلكيك" ومحاولة تغطية على سلوك أمني غريب وخاطئ وفج، غير أن نتائج تلك الواقعة -على صغرها- بالغة السوء على نظام السيسي بكامله، وقد تناولت الواقعة شبكات تليفزيونية عالمية مثل "بي بي سي" و"سي إن إن"، وصحف كبيرة مثل النيويورك تايمز وغيرها، وهذا في المقياس السياسي مكلف جدا، كما أنه حتى على المستوى الاقتصادي مكلف جدا، لأنه يرسل رسائل شديدة السلبية للدول المانحة عن التزام الدولة بأبسط معايير حقوق الإنسان، ودع عنك أن هذا الموقف يبخر ملايين الدولارات التي أنفقتها الحكومة من خلال مؤسسات دولية لتحسين صورة النظام وتسويقه في الخارج.
ما حدث مع إسلام جاويش يشبه -سياسيا- ما حدث ويحدث مع الطفل الذي أصبح شابا مراهقا الآن "محمود محمد"، المشهور بمعتقل التي شيرت، لأنه ألقي القبض عليه لارتدائه قميصا مكتوبا عليه "وطن بلا تعذيب"، وبقي هذا الطفل في محبسه قرابة خمسة وعشرين شهرا، حوالي عامين، يتم تجديد حبسه كل مرة بطلب من الجهات الأمنية التي تسبب ذلك - بديهيا - بخطورة إطلاقه على الحالة الأمنية، ومأساة هذا الطفل تمثل واحدة من أهم المواقف التي شوهت نظام السيسي داخليا وخارجيا، وعمقت مرارات في النفوس يصعب زوالها، وحشدت قطاعات متزايدة من الكارهين للنظام والمعارضين له في أوساط كانت حليفة له فيما سبق، أي أن الثمن السياسي لتلك الواقعة مكلف جدا، وما زال يدفع من رصيد النظام ومن رصيد السيسي شخصيا، أو ما تبقى له من رصيد، وهو ما يجعلك أمام السؤال البديهي : لماذا يفعلون كل شيء يسبب كراهية للنظام.
لا أستطيع أن أمضي في خيالات سوء الظن التي تنتاب قطاعا واسعا من المعارضة بأن هناك من داخل النظام من "يضرب" في السيسي ويحرجه ويضعف موقفه شعبيا، لأنه لا يوجد ما يؤكد ذلك بصورة مباشرة أو دامغة، ولكن مجرد طرح هذا الظن كاف لكي يستوعب السيسي كم هي سياسة ضارة به وبمستقبله السياسي، وكم هي سلوكيات تؤذيه هو قبل أن تحجم خصومه، وكم هي قرارات تحاصره هو سياسيا وتعزله شعبيا بصورة متزايدة، وتضعف الثقة في قدرته على إدارة الدولة، سواء أمام شعبه أو أمام المجتمع الدولي الذي يبدي قلقه الدائم من تردي الأوضاع في مصر ومستقبلها المظلم.
أغلب الظن أن هذه المواقف والإجراءات تكشف عن أمرين أساسيين، الأول هو غياب أي رؤية تحكم النظام السياسي تجاه الواقع والمستقبل، فتأتي التصرفات خبط عشواء، وكل جهة تتصرف وفق ما تراه مناسبا لها، غير مرتبطة بحسابات سياسية للدولة ككل، وغير مراعية لمصالح لا ترى محددا لها تعمل من خلاله، والأمر الثاني هو وجود حالة من الإحساس بالهلع والخوف من المجهول لدى أجهزة الدولة، مما يسبب ارتباكا وتوترا في السلوك الأمني فيضرب بعشوائية على سبيل الاحتراز مما يزيد من توتر المجتمع وتهييج الشباب الغاضب فتتولد إجراءات أمنية أخرى للسيطرة على ما استجد وتصحبها أخطاء أخرى تولد غضبا آخر، وهكذا في دائرة مغلقة بلا انتهاء.
عن صحيفة "المصريون" المصرية
1
شارك
التعليقات (1)
عادل المصري
الثلاثاء، 02-02-201611:13 م
هذا الكاتب الممدعو جمال سلطان كان احد الكتاب الذين استخدموا قلمهم للنيل والهجوم من اول تجربة ديمقراطية تشهدها مصر ومن اول رئيس منتخب بارادة شعبية حرة وليته كان يحاول النقد البناء وتصويب الاخطاء ولكنه انفع مع تيار الدولة العميقة يهاجم بضراوة ممهدا البساط لاعادة حكم العسكر وهزيمة الحرية والديمقراطية
والان يتباكى ويدعي الاندهاش من تصرفات العسكر والدولة البوليسية
اللهم عامله على قدر نيته هو كل من اوصلنا الى هذا الوضع المأساوي