بقدر ما تغرقنا لعبة كرة القدم، في غالب الأحيان، في مستنقعات متعفنة من العنف والرشاوى والمنشطات ومضيعة الوقت وهدر المال العام والمستوى الفني المتدني، بقدر ما تحقق في بعض الأحيان ما يعجز عن تحقيقه الساسة والأساتذة وحتى الأئمة، الذين فشلوا جميعا في توحيد الأمة حول قضية فلسطين، والاتفاق على أن العمل هو الوحيد الذي يراه الله ورسوله والمؤمنون، ومحرّرنا من التبعية للآخر.
فقد قدم اللاعب المصري محمد أبو تريكة خلال تتويج اللاعب رياض محرز بلقب أحسن لاعب جزائري، درسا كاملا من الوفاء للقضية الفلسطينية، عندما أنسى الحاضرين "لهو" الكرة و"جوائزها" الزائلة، وأوصاهم بأن يُكفنوه بقميص غزة، وهو إعلان من الآن على أن جنازة هذا النجم الكروي الرائع -بعد عمر طويل- ستكون سياسية، ورسالة للصهاينة، من رجل عربي ومسلم من بلاد محمد عبده وسيد قطب ومحمد الغزالي، عاش في فلسطين وسيموت فيها.
وحتى إن أمنت إسرائيل جانبها، من سياسيين مختلفين بين شرقي وغربي ومنبطح وغير مهتم إطلاقا بالقضية، ومن رجال دين اخترعوا وهابية وقرآنية، وغيرها من الفرق، بهدف تفريق الصف وليس توحيده، فإنهم لن يأمنوا جانبهم، من نجار أو فلاح أو إسكافي أو حتى لاعب كرة، يبدو ظاهريا كـ"الأبله" يجري خلف كرة من مطاط، ولكنه في الواقع يجري لأجل قضيته، كما فعل محمد أبو تريكة الذي لعب فشغل الناس عندما قال عنه أكبر ناقد كرة في إيطاليا، بأنه أحسن من لعب الكرة الأنيقة بعد يوهان كرويف، وعندما اعتزل، شغلهم أيضا، وسيشغلهم عندما يفارق الحياة.
كما يقدم حاليا اللاعب الجزائري رياض محرز المحترف في إنجلترا نموذجا لشاب تحدى كل الظروف القاهرة التي تجرّ عادة أمثاله من أبناء المهاجرين نحو الجريمة أو الاستسلام للفقر وللفشل، ولكنه حوّل أزماته التي تلوّنت بالسواد بعد وفاة والده، إلى هِمّة، نقلته الآن لأن يكون واحدا من أحسن لاعبي الكرة في العالم، وقدمته للعب في الجزائر من أجل تحقيق حلم والده، ذاك الرجل البسيط والفقير الذي مزقته الحاجة، فغادر الجزائر بحثا عن قوت أولاده، ولكنه حمل الجزائر في قلبه وورّثها لابنه، في الوقت الذي يُورّث بعضنا، و"أستسمحكم" أن أقول غالبيتنا، أبناءنا كيفية إخراج الجزائر من قلوبهم، بحجج واهية، ترتكز على ما يقترفه النظام والشعب في حق وطن غني في كل شيء، ويجد نفسه متخلفا في كل شيء.
وعندما يقف السياسيون عاجزين أو خجلين أو مغتاظين، وهم يستمعون لوصية اللاعب المصري محمد أبو تريكة، الذي لم يحققوا حلمه في إنقاذ غزة، فصار يحلم بأن يأخذها معه للدار الآخرة، وعندما يقف الداعية عمرو خالد مستلهما من تحدّي رياض محرز للظروف الصعبة؛ لأجل أن يشرح آيات الإحسان للوالدين وخفض جناح الذل من الرحمة، التي وردت في سورة الإسراء، فمعنى ذلك أنه بإمكاننا أن نحوّل هذا المستنقع المتعفن الذي أردناه عنفا ورشاوى، إلى بحر مكتنز بالزمرد والمرجان.