في زمن التقنية أصبح كل شيء قابلا للتزوير حتى الرأي العام، ساهم في ذلك ميل معظم وسائل الإعلام وقبلها كثير من المسؤولين لقبول مخرجات شبكات التواصل الإلكترونية واعتبار ما يجري فيها موازيا لما يجري في الواقع للدرجة التي أصبح الناس معها يتوقعون صدور قرار من الجهة الفلانية بناء على «هاشتاغ» في تويتر، أو رسالة «برودكاست» في «واتس أب».
الانفتاح على مختلف شبكات التواصل في السعودية لم يواكب وعيا حقيقيا بدورها وخفاياها وأسرار التلاعب بها، وصاحب ذلك تسابق حثيث من قبل وسائل الإعلام التقليدية للانخراط في اللعبة خوفا من أن تنزلق خارج مضمار الأحداث، وهذا بالطبع أسهم في تضخيم دور تلك الشبكات وحولها إلى حكومة ظل قادرة على المساس بحياة الناس وتوجيه قرارات بعض المسؤولين، ولو كانت هذه الشبكات تعكس الحقيقة فعلا وتحظى بالموثوقية كما يتصور المسؤول الغارق فيها، لاعتمدت عليها دول العالم المتقدم وأغلقت مراكز الدراسات، وهجرت استفتاءات الرأي، وبنت قراراتها بناء على ما يدور فيها، لكن هذه الدول اكتشفت مبكرا اللعبة، ولم تعط هذه الشبكات أكثر من حجمها، لمعرفتها بأن التلاعب فيها وصناعة الحملات الوهمية الصاخبة داخلها عملية غير مكلفة وأسهل من السهولة نفسها.
اليوم.. وبأقل من ألف دولار يمكن لأي مواطن أن يصنع «هاشتاغ» في شبكة تويتر، يتصدر كافة الهاشتاغات في السعودية، ويعطي انطباعا للمتابعين بأن ما يتناوله هو أهم قضية من قضايا الرأي العام في البلد، وهناك مئات الشركات وحتى الأفراد الذين يقدمون هذه الخدمة وبشكل علني، حيث يمتلكون برامج بسيطة ترسل مئات التغريدات من حسابات وهمية كل دقيقة للهاشتاغ المطلوب تفعيله.
وبالطبع هناك بعض المشاهير الحمقى الذين ينخرطون في اللعبة دون وعي، لمجرد أن القضية صارت متداولة، فيجرون وراءهم قطعانا من متابعيهم، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشركات التي تقدم هذه الخدمة لديها عقود مع كثير من الحسابات الشهيرة، عقود تجبر أصحاب هذه الحسابات على المشاركة بالتغريد وإعادته، وما هي إلا ساعات حتى تتفاعل بعض الجهات مع القضية، ولو أن أي متابع لـ«الهاشتاغ» الذي «كسر الدنيا» أطل من شباك منزله وسأل أيا من المارة في الشارع عن القضية الساخنة في جهازه، لتم الإبلاغ عنه باعتباره مجنونا يضايق المارة الذين لا يعرفون شيئا عما يتحدث عنه.
الأمر ذاته يحدث في التطبيقات الأخرى مثل «واتس أب» الذي بات التطبيق الهاتفي الأكثر جماهيرية بين السعوديين، فهناك شركات تسويق وأفراد محترفون بات من السهل عليهم إرسال رسالة معينة إلى عشرات الآلاف من الهواتف بضغطة زر واحدة، إذ تباع قوائم الأرقام الهاتفية المرتبطة بالتطبيق في السوق السوداء بمبالغ زهيدة، ويمكن لأي شخص شراء قائمة بأرقام رجال الأعمال، في الرياض مثلا تحتوي على أكثر من 5 آلاف رقم بأقل من 500 ريال وإرسال رسالة «واتس أب» موحدة لهم عن قضية معينة، ليتصوروا أنها القضية الأهم التي تمس أعمالهم، وهكذا تتحول إلى حدث هام يدفعهم لتكرار سؤال الجهات المختصة عنه، فتضطر تلك الجهات إما لنفي الأمر أو إصدار قرار جديد بخصوصه، وتستمر الدوامة.
الأكيد أن ارتهان وسائل الإعلام لضجيج شبكات التواصل مسألة خطيرة وارتهان قرارات المسؤول لها مسألة أخطر، والمستقبل القريب كفيل بإضحاكنا على أنفسنا وقضايانا المفتعلة.