نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرا لثاناسيس كمامبانيس، رسم فيه صورة للدمار البالغ الذي حل بمدينة
حمص، وتحدث فيه عن اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في منطقة الوعر، ونقل فيه آمال سكان المدينة لمستقبل مدينتهم وبلدهم
سوريا.
يقول كمامبانيس إن "أربع سنوات من القصف الذي لم يتوقف، غيرت وجه المدينة، التي كانت يوما رمزا للثورة، بحيث لا يمكن معرفتها".
ويصف الكاتب الوضع قائلا: "البنايات المدمرة وقضبان الحديد الملتوية وأصوات إطارت النوافذ المكسرة يلعب بها الهواء، وكانها دوارات اتجاه الريح. الطرق مهجورة والناس الوحيدون الذين يمكن أن تراهم هم الحرس العسكري مجتمعين في قواعد بنايات مهدمة، وقد تم حفر خنادق عميقة للكشف عن أنفاق
الثوار. وامتزجت محتويات البنايات المدمرة مع ما حولها وذابت فيه، ونمت الأعشاب على أنقاض تلك البنايات".
ويضيف كمامبانيس: "بالنسبة لحكومة النظام السوري، فإن الحرب في حمص انتهت، حيث هزمت فصائل الثوار قبل أكثر من عام، وما تبقى من الثوار في ضاحية الوعر وقعوا على اتفاق وقف إطلاق النار هذا الشهر. وانتقل عشرات الثوار في الباصات إلى مناطق يسيطر عليها الثوار بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، وصفته الحكومة والأمم المتحدة بأنه اختراق".
ويعلق الكاتب بأن "محافظ حمص طلال البرازي كان وراء وقف إطلاق النار سابقا في حمص المدينة القديمة، وفي ضاحية الوعر منذ فترة قصيرة. ولكن لم يعد إلى وسط المدينة أحد من سكانها
السنة، الذين يؤيدون الثورة، ويبدو البرازي أحيانا بأنه يحكم مقبرة وليس مدينة،
دمار أسطوري مؤهل للانضمام إلى هيروشيما أو درزدن أو ستالينغراد في قاموس الحصار والدمار التاريخي".
ويواصل كمامبانيس رسم المشهد قائلا:"فبعد عامين من الحصار للبلدة القديمة، فر منها سكانها كلهم، البالغ عددهم 200 ألف، وتم تدمير أكثر من 70% من البنايات. واليوم، وبحسب حكومة النظام السوري، فإنه لم يعد سوى ثلث من غادر منطقة حمص، ولكن مركز المدينة المدمر لا يمكن أن يسكن. ويقول البرازي إن إعادة بناء وسط البلد ستكون مكلفة جدا، ودون مساعدة من إيران وروسيا والصين لن تكون ممكنة. ويقدر الخبراء بأن إعادة بناء سوريا ستكلف أكثر من 200 مليار دولار أمريكي، أو ثلاثة أضعاف الناتح المحلي الإجمالي قبل الحرب".
ويستدرك الكاتب بأنه "مع ذلك تأمل حكومة النظام السوري في تحويل هذه المدينة المحطمة إلى مثال للانتعاش الاقتصادي، وتأمل السلطات بأن تجعل من إعادة بناء حمص رسالة على اعتزامها استعادة السيطرة على البلاد كلها، فإن كان باستطاعتهم تدجين حمص، وهي المدينة السنية التي أيد معظم سكانها الثورة، فبإمكانهم فعل هذا في أي مكان".
ويعتقد كمامبانيس أن "هناك رسالة تنطوي على المزيد من التوعد، وهي أن المناطق التي وقفت تماما مع الثورة تم تدميرها بشكل كامل، وتركت لتنهار تماما بعد انتصار النظام، ولم يسمح لأي سني تقريبا بالعودة. ويفهم مؤيدو الثورة النازحين من حمص بأن هذه هي الموجة الثانية للعقاب، وقد لا يسمح لهم تماما بالعودة".
ويشير الكاتب إلى أن "هذه هي نظرية النظام: حاصر مناطق الثوار حتى يصبح الثمن كبيرا جدا، يجعل من تبقى من الثوار يستسلمون. ويشكل الدمار الذي تخلفه العملية رادعا للآخرين. ويقول مؤيدو النظام إن تدمير النظام لحمص جعل المليشيات المحيطة بدمشق، مثل جيش الإسلام بقيادة زهران علوش، يتجنبون استهداف وسط المدينة عند إطلاقهم للمقذوفات".
ويقول كمامبانيس: "أما الثوار فيتعلمون درسا آخر: بأن
الأسد يقضي على أي معارضة يستطيع القضاء عليها، ما لم يقاتل الثوار قتالا عنيفا وطويلا، حتى يكسبون أو يؤمنون منطقة، أو يجبرون الحكومة على السماح لهم بممر آمن إلى منطقة ثوار أخرى. فالقوة وحدها هي القادرة على تحصيل التنازلات من الدولة".
ويلفت الكاتب إلى أن "زيارة حديثة لحمص كشفت عن الانقسامات العميقة في المدينة، التي تجعل من شبه المستحيل إعادة ما كان من قبل. فالمدينة ذات أغلبية سنية، ولكنها مختلطة وأكثر محافظة من دمشق، ولكن كان هناك تعايش بالرغم من الفروق الطائفية".
ويقول كمامبانيس: "وقفت وسط ميدان الخالدية في وسط البلد القديمة، واستطعت التعرف على بقايا المدينة، حيث كانت تقف الحوانيت والعمارات ذات الخمسة طوابق، وينبثق من الدوار ستة شوارع. لقد رأيت هذا المكان سابقا، عندما كان يعج بالمظاهرات ثم الاشتباكات مع الثوار، وبعد ذلك ضرب بالمدفعية للقضاء على المقاومة. وما يتبقى اليوم هو مجرد دمار يصلح لأن يكون في فيلم خيال علمي بائس، لو لم يكن دمارا حقيقيا".
ويبين الكاتب أن "الصوت الوحيد المسموع هو صوت الرياح التي تعصف بصوت مرتفع، وكأنها في صحراء في قلب هذه المدينة الضاربة في القدم".
ويتابع كمامبانيس: "قالت المسؤولة الحكومية التي تصحبني، مشيرة إلى بعض الآثار التي اختفت: (لن تستطيع إعادة بناء هذا)".
ويمضي الكاتب واصفا المشهد: "استمر الدمار في كل اتجاه، ويخف عندما تصل الهضبة بالقرب من الحميدية، في حارة مختلطة عادت إليها عائلات معدودة، بعضها سنة وبعضها مسيحية".
ويواصل كمامبانيس قائلا: "عندما ترى دراجة هوائية خارج مدرسة مهدمة، تعرف أنك وصلت منطقة أعيد سكانها في الخالدية. ورأيت ولدين يلعبان بكرة قدم في ساحة محاطة بالأنقاض والجدران المهشمة، ووجهونا نحو شارع المأمون، الذي يبدأ من بيت قديم من الفترة العثمانية بساحته الداخلية ونافورته، وحولت أحد نوافذه ليستخدمها قناص، وقد أدخل هيكل سيارة في النافذة".
ويورد التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، أن عبداللطيف توفيق العطار (64 عاما)، وهو سني عائد إلى البلدة القديمة في وسط حمص، وربما وثقت به الحكومة لنقده العلني للثوار، ويقول عنهم إنهم "أتوا ودمروا كل شيء". ويعيش العطار حياة بائسة، حيث تعيش زوجته وابنته في شقة مستأجرة في أطراف حمص، بينما يقوم هو بتصليح بيته غرفة غرفة. وقبل الحرب عمل ميكانيكيا في مصفاة البترول الحكومية، واليوم يصلح دراجات هوائية على باب بيته.
وتذكر المجلة أن العطار يحمد الله على أنه لم يخسر أحدا من أبنائه، وأنه لا يزال يتقاضى راتبه الحكومي، وأن جدران منزله بقيت واقفة، ويقول: "كان يمكن أن يكون وضعي أسوأ بكثير".
وينقل الكاتب عن العطار قوله: "إن هناك وحدة قاتلة في المنطقة"، مشيرا إلى أنه "اعتذر عن استقباله لنا في بيته المهلهل، ويقول إن ابنه دعاه إلى الذهاب للعيش معه في السعودية، ولكنه رفض ذلك قائلا إنه يحب بلده، ولا يريد أن يعيش في أي بلد آخر. ثم بدأ يبكي بصمت ويقول: (خسرنا الكثير في سوريا، خاصة في حمص، لم نعتد على منظر النساء يستجدين على أبواب المساجد)، وبعد قليل قال: (ستعود حمص)".
ويقول كمامبانيس إن "ممثلة وزارة الإعلام المحلية، والمسؤولة عن اصطحاب الصحفيين في المدينة، وهي علوية، بدأت تبكي أيضا، فقد قتل أحد أولادها وهو يقاتل مع جيش النظام في درعا، وزوجها وولداها الآخران لا يزالون في الجيش. وقالت بينما كانت تعبث بحلية ذهبية تحمل نقشا لصورة ابنها الفقيد: (خسرنا كثيرا جدا.. حتى أبناءنا)".
ويفيد التقرير بأن العطار شد على يد السيدة وواساها قائلا: "لا تحزني، لا أحد يموت قبل أجله، فالناس يهربون من الحرب هروبا من الموت فيموتون في البحر، ذهب الناس إلى الحج فمات منهم 800 في الزحام".
وتورد المجلة نقلا عنهما قولهما إن الحرب في بقية سوريا ستتوقف، كما توقفت في حمص، وقال العطار: "هؤلاء الرجال الذين آذونا آذوا أنفسهم أيضا، الله يعلم ما فعله كل شخص، الناس يرتكبون الأخطاء".
وبحسب الكاتب، فقد ذكرت المرافقة قولا مأثورا عن الرئيس السابق حافظ الأسد: "الدين لله والوطن للجميع"، وتقول: "هكذا نشأنا، وإن كنت تريد أن تعيش في بلد له حكومة وأرض ووطن، عليك أن تتسامح حتى لا تخسر كل شيء".
ويكشف التقرير عن أن سكان حمص الموالين للنظام يتحدثون بحنين عن أيام التعايش بين مختلف الفئات، مستدركا بأن حكومة الأسد لم تترك خيارا أمام الثوار سوى الرضوخ أو الاستسلام، فلا مكاسب، مثل زيادة في حقوق الأغلبية، مع أن محافظ المدينة متفائل بأن سكان حمص السنة سيبدأون بالعودة إليها عندما تبدأ الحياة تدب فيها شيئا فشيئا، وحتى أولئك الذين تعاطفوا مع الثورة.
وتنقل المجلة عن البرازي قوله في مقابلة على هامش مؤتمر لإنعاش الاقتصاد عقد في دمشق: "بين أعياد الميلاد ورأس السنة سترى حمص قديمة جديدة، وعندما تفتح المتاجر أبوابها، سترى الأمور تعود للحياة". وأضاف أن "تفجيرا هنا أو سيارة مفخخة هناك، لن يهددا الأمن في المدينة، فحمص أكثر أمنا من دمشق".
ويوضح كمامبانيس أن سياسة البرازي في إعادة الإعمار هي المشاريع التي يمكن الإنجاز فيها بسرعة، وللبنايات ذات الأهمية في البلدة القديمة، مثل المدارس والأماكن الأثرية وأماكن العبادة، مثل كنيسة نوتردام دي لا سنتور ومسجد خالد بن الوليد و 400 بسطة في السوق القديم، ويأمل بأن تتحمل روسيا وإيران والصين فاتورة الإعمار. كما أنه يقدر بأن حوالي ثلث سكان البلدة القديمة عادوا، وإن لم يكن إلى بيوتهم.
وينوه التقرير إلى أنه أعيد فتح عدد من المدارس الكنسية هذا الخريف في الحميدية في البلدة القديمة، وجاء للمدرسة في اليوم الأول حولي 200 طالب من عدد الطلاب المسجلين قبل الحرب، وهم أربعة آلاف طالب، بحسب الأب أنطونيوس وهو القسيس الذي يدير مدرسة الغسانية. وفي وقت خروج الأطفال، قال أهالي الأطفال إنهم لا يشعرون بكثير من الاطمئنان، وقال القسيس إنه يحاول جهده في طمأنتهم بأن الأمور ستكون على ما يرام.
وبحسب المجلة، فإن الاستراتيجية الحكومية تتجاوز العوائق العملية لإعادة بعث الحياة في المدينة، كما أنها تهمل تماما المشاعر المرة للناس، الذين يؤيدون الثورة، ولن يستطيعوا التعايش مع حكم الأسد.
ويقول الكاتب: "قد تصبح حمص نموذجا، ولكن ليس كما يريد النظام السوري، بل قد تنتهي كونها رمزا دائما لحرب التطهير العرقي والحصار المدني دون حدود. فالمشروع الحكومي، الذي تريد أن تجعله الحكومة نموذجا، ليس فيه مكان للحشود من سكان حمص، الذين انتفضوا ليطالبوا بحقوقهم من حكومة تعذب مواطنيها بشكل منهجي، ولا تسمح لهم بالإدلاء بدلوهم في كيفية الحكم. ويقول الناشطون المعارضون للنظام إنه يرفض السماح لسنة حمص بالعودة؛ خشية أن تعود المدينة قلعة للمقاومة".
وينقل التقرير عن رجل متقاعد من حمص لم يغادرها، واشترط عدم ذكر اسمه؛ خشية انتقام الحكومة منه ومن عائلته، قوله: "لا يزال الناس يؤيدون الثورة". وأضاف أن حمص أثبتت عقم التوقع من حكومة النظام السوري بالقيام بإصلاحات، وأبدى أسفه على كيفية رد الحكومة على الاحتجاجات السلمية المطالبة بالإصلاح باستخدام القوة القاتلة والاعتقالات والتعذيب.
ويقول الرجل: "لقد استمر الناس بالتظاهر السلمي لستة أشهر لم يرفعوا فيها حتى سكينا، وعندما بدأ النظام بقتلهم دافعوا عن أنفسهم. أنا حزين جدا على سوريا، توقفت عن التفكير في مستقبل سوريا منذ زمن بعيد، وأعيش يوما بيوم".
وتختم "فورين بوليسي" تقريرها بالإشارة إلى أن هذا المواطن كان يقوم خلال حصار ضاحية الوعر بتهريب الطعام واللحوم للمدنيين، ويؤيد هو ومواطنون آخرون تقدم الثوار في المناطق المختلفة من سوريا، ويقول إنه اليوم بدأ يشعر بالاكتئاب، حيث تسيطر الحكومة على مدينة كانت تشعر بأنها أول مدينة تحررت في سوريا. ويقول: "أحس أنني سأنفجر، مات هؤلاء الناس كلهم.. وما هي النتيجة؟ لا أستطيع أن أصدق أن ينتهي كل شيء وبشار الأسد لا يزال رئيسا، أفضل الموت على ذلك".