كتبت الأسبوع الماضي أنبه إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يكون خطرا على السعودية بعناده وسياساته في سوريا، وأن من الحكمة توقع هذا الخطر لتلافيه، فأثارت مقالتي، التي انتشرت انتشارا واسعا، اهتماما كبيرا، وسجلت أعلى رقم في تعليقات قراء «الحياة»، ومعظمها مؤيد لما ذكرت، كما أكد لي القسم الإلكتروني بالصحيفة.
ولكن ومع الاهتمام تعرضت المقالة لحملة تشويه وتشويش من زملاء تفترض فيهم الحصافة، فيردون على الرأي بالرأي ويفندون الحجة بالحجة، فيكملون ما نقص ويصوبون ما كان خطأ، ولكن أولهم ذهب يصرخ «من يكون (الكاتب) حتى يعطي انطباعا أننا في حال حرب مع روسيا؟».
إنه كاتب مثلك، ينافح عن حقك في إبداء الرأي وتشكيل الرأي العام وتحليل ما يجري، فإن ضيقت عليه ضيقت على نفسك وعلى صناعة الرأي. وثانٍ وصف المحذرين من خطر بوتين بالانتهازية، وذهب يضرب تحت الحزام قائلا إنها «رغبات يتمناها صاحبها لخدمة قضية تتعلق بأهوائه وانتماءاته خارج حدود الوطن»! ومثله لا يرد عليه ولا على سابقه لولا أن محور نقدهما وجد صدى عند كثيرين ممن تأثروا بصراع التيارات العدمي، فرأوا في المقالة «محاولة لجر المملكة إلى صراع تركي - روسي من أجل الإخوان المسلمين»، كما كتب لي زميل ورئيس تحرير سابق، مختزلا الأزمة السورية وتداعياتها في «الإخوان»! إنها حالة «إخوان فوبيا» متقدمة لدى البعض، وخطرها أنها تغبش رؤية من يصاب بها، فلا يستبين الخطر الحقيقي المداهم، وإن كانت محتملة عند كاتب فيناقش ويصوب إلا أنها أخطر إن دخلت في دائرة صنع القرار.
الأزمة السورية حالة معقدة وأزمة إقليمية ودولية أكبر من "الإخوان المسلمين" والإسلام السياسي كله، وما هم إلا لاعبون صغار في أزمة أكبر، إنها ثورة للحرية لدى فريق هائل من الشعب السوري ذهب حتى رفع السلاح دفاعا عن نفسه بعدما بطش النظام به، فأصبح هناك ما لا يقل عن 150 ألف شاب سوري مسلحين ضمن عشرات التنظيمات، ولا بد من الاستماع إليهم عند النظر في حل الأزمة، ولذلك حرصت المملكة على دعوة نحو 15 فصيلا مسلحا لتمثيلهم في المؤتمر السوري العام، الذي سيعقد في الرياض أو أبها خلال أيام، إضافة إلى الممثلين التقليدين من الشخصيات الوطنية والدينية السورية، وممثلي الأقليات الذين تعودنا على رؤياهم في اجتماعات اسطنبول أو الدوحة أو القاهرة.
وهي أزمة نفوذ إقليمي، إذا رأيتها من منظور سعودي صرف، فالمملكة لا تحتمل ولن تقبل بنفوذ إيراني دائم وعسكري في شمالها أو شامها، وحتى الآن لم يقدم لها أي طرف حلا إقليميا يعالج مخاوفها الأمنية ويوفر شرطها «سوريا دون إيران»، وحتى يتحقق هذا الشرط فإن التدخل الروسي هناك قد يجعلها تتحسس مواقع أقدامها قبل أن تقدم على شيء في الداخل السوري، لتحاشي التصادم مع العملاق الروسي، ولكنه لم يغير موقفها الثابت، ويمكن العودة إلى تصريحات وزير الخارجية عادل الجبير، حتى بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل الأتراك، الذي لا يزال مصرا على «رحيل الأسد» شرطا للحل «سلما أم حربا». وإن رأيتها من المنظور الإيراني فهي الدفاع عن نفوذهم الذي امتد حتى شرق المتوسط، ما يمكّنهم من إعادة صوغ التاريخ وفق رويئتهم الطائفية الضيقة، ولو خسروا سوريا فسيخسرون لبنان وحزبهم المتنفذ هناك. إذا هي حرب وجود لهم في عالمنا، أما من المنظور التركي فهم شركاء مع السعودية في رفض الوجود الإيراني مع جملة مصالح تخصهم، مثل حماية الأقلية التركمانية هناك، ومنع تمدد الأكراد في دويلة تخصهم.
وعالميا هي أزمة تدافع بين الروس والغرب، تمتد من شبه جزيرة القرم وأوكرانيا إلى شرق المتوسط، وقد دخلت جمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو) على الخط، التي كانت ضمن يوغسلافيا المحسوبة ضمن الحيز الاستراتيجي السوفياتي القديم، الذي ورثه بوتين ويريد إعادة الاعتبار إليه، بعدما أعلن "الناتو" الأربعاء الماضي نيته في ضم مونتينيغرو إلى الحلف، ما أثار حنق الروس، وقد يتوسع التدافع حتى يشمل مصر التي تتعرض لضغوط لاختيار أي معسكر بعدما ارتبكت بوصلتها إثر حسم الصراع الداخلي فيها لمصلحة الجيش بعد عودته إلى السلطة في تموز (يوليو) 2013، ويبدو جليا أن هواه يتجه شرقا كل يوم لتحقيق رؤيته في «استقلال القرار الوطني المصري إقليميا» ولكن مصر لا تزال حائرة تقف برجل هنا ورجل هناك، ولكن استمرار التدافع سيضطرها إلى اختيار معسكر من دون آخر، إذ لن تستطيع ولن يقبل منها الوقوف في مكانين في وقت واحد، ولعل هذا يفسر الموقف السعودي الصابر على تجاوزات الإعلام المصري المعبّرة عن رأي القوى داخل النظام المتجهة شرقا، وتفعيلها مجلس التنسيق السعودي - المصري الذي عقد جولة اجتماعات أخرى في الرياض قبل أيام.
ثمة حال غموض سائدة ومتعمدة، يمكن تلمسها بوضوح حال الاستماع إلى مؤتمر صحفي لوزير خارجية أي من دول «الصراع السوري»، إذ تجتمع تصريحات عائمة تحمل أكثر من تفسير. إنها محاولة الجميع لتحاشي «لحظة الحقيقة» التي تتطلب فرزا صريحا في المواقف، فالعلاقات والمصالح متداخلة، فحتى إيران التي هي عدو صريح مع السعودية مثلا، ليست عدوا مطلقا لتركيا، فهي تريد نفطها وسوقها، ولا للدول الغربية التي تلهث حاليا خلف مكاسب اقتصادية لشركاتها في السوق الإيرانية البكر والكبيرة، بعدما وقعت الاتفاق النووي معها، وهو في الحقيقة اتفاق مصالحة تاريخية بينهم.
ودولة كالإمارات مصطفة تماما مع السعودية في اليمن، ولكنها لا تريد تعاونا مع تركيا في سوريا، وتحافظ على علاقاتها التجارية مع إيران.
والأردن يرفض بشار ويسمح للسعودية والولايات المتحدة بدعم الثوار وتدريبهم عبر أراضيه، ولكنه لا يريد أن يتورط في صراع أكبر منه.
والولايات المتحدة سيدة التناقضات، فهي ضد بشار، ولكن تمنع تسليح الثوار، وتفكر في عملية عسكرية برية ضد «داعش» في سوريا بدعم الأكراد، تنطلق من أراضي تركيا، الدولة التي تتخوف من الأكراد وطموحاتهم وترى الجماعات الكردية المدعومة أمريكيا امتدادا لـ "حزب العمال"، الذي تراه إرهابيا.
حتى المملكة الرافضة للتدخل الروسي في سوريا وحذرتهم مباشرة من تبعاته، لا تزال تطور علاقاتها التجارية مع روسيا، لعلها تكون مفتاحا للتفاهم بينهما. ألمانيا التي رفضت عمليات "الناتو" في ليبيا تفكر في إرسال 5 آلاف مقاتل لمحاربة «داعش» في الرقة، وقس على ذلك مواقف بقية الدول.
إن بناء أحكام على التفاصيل السابقة غير مجد، فهي مواقف متغيرة، والأصح بناء الأحكام على المواقف الثابتة، مثل موقف السعودية، «سوريا دون إيران»، والموقف الإيراني، «سوريا خط أحمر»، والأهم منهما موقف غالبية الشعب السوري، «سوريا حرة». هذه المواقف الثلاثة هي المبادئ المؤسسة لفهم الصراع في سوريا، وليس المواقف الأمريكية والأوروبية أو الروسية العابرة والمتغيرة، فما بالكم بموقف طرف يتيم في الصراع اسمه «الإسلام السياسي» أو «الإخوان المسلمون»؟
أعود إلى المقال وأختصر ردي على الزملاء بأن المملكة ليست بالخب الذي يجره كاتب مقالة بصحيفة، إنما لديها مبدأ ثابت لن تحيد عنه وإن طوعت مواقفها وفق تطورات الوضع وقدراتها، كما أنها لن تجر إلى الاصطفاف مع تركيا لأنها أصلا هناك، وقد فاتهم أن رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو صرح الاثنين الماضي، وبجواره الأمين العام لحلف "الناتو"، بأن بلاده والسعودية ودولة ثالثة، لم يسمها، بصدد إطلاق عملية عسكرية في سوريا لمحاربة الإرهاب.
لا نعرف تفاصيل هذه العملية ومتى وأين ستنطلق ومن هي الدولة الثالثة؟ كما لم يصدر نفي سعودي لتصريح عالي المستوى كهذا، ولكن بالتأكيد ما كان ليقول ذلك لو لم يشارك شخصيا، أو أنه على علم باجتماعات أمنية عالية المستوى بين الدول الثلاث للتخطيط لعملية كهذه.
هل نسمّي ذلك تحالفا سعوديا - تركيا عسكريا؟ المصابون بـ «الإخوان فوبيا» يرفضون ذلك، أو لا يريدون تصديقه، ويصرون على رؤية تركيا، ليس بمنزلة دولة إقليمية كبرى، وإنما بمنزلة تنظيم! وما هي بذلك. ولكن إيران ونظام الأسد وحليفتهما روسيا يرون التحالف، وفي الغالب يستعدون له، ويدركون أنه صراع دول أكبر من مجرد تنظيم بسيط وتدافع تيارات، فهلا فعلتم مثلهم.
عن صحيفة الحياة اللندنية
1
شارك
التعليقات (1)
حسن
السبت، 05-12-201505:28 م
الخاشقجي يقول "..بعدما ارتبكت بوصلتها إثر حسم الصراع الداخلي فيها لمصلحة الجيش بعد عودته إلى السلطة في تموز (يوليو) 2013 .." ...كل هذا الكلام والمراوغة حتى يتفادى قول "بعد الانقلاب"! ولهذا فالسعودية بهذه المكابرة ستخسر امام ايران وامام بشار و حزب الله والحوثة.. انها ببساطة تتعاطى السياسة كبدو وكذلك الخاجقجي.. ومن جهة اخرى كلامك كله يصب في التقليل من ورقة الاخوان والاسلام السياسي الاخواني في الشرق الاوسط المتقلب.. فمحاولتك تقليل اهمية هذه الورقة يدل ان لديك (كما السعوية والامارات) رهاب اسمه رهاب الاخوان.. ويدل انك و السعودية والامارات لا تستطيع ان تقرؤا الشرق الاوسط الا بمنظار وزاوية الاخوان او بالاحرى ثنائية الاخوان و اللاخوان.. انظر الى الامارات (وهو مثال فج) في خصومهم مع الاخوان وكيف لا زالوا يتعاطون مع ازمة اليمن من زاوية حزب الاصلاح (التصريحات الاخيرة), وكذالك ابتزاز الامارات للبريطانيا.. صحيح ان السعودية ارشد من الامارات لكن في الاخير خصومتهم الفاجرة للاخوان هي هي.. ولن تنتصر السعودية على دهاة ملالي ايران الا باحد امرين : ان تتصالح مع الاخوان او ان تنتصر للدولة الاسلامية. وفي حالة الاخيرة ستبني السعودية (تيارها النووي الوهابي) اكبر امبراطرية في العالم الحديث وستقضي حتى على روسيا.. ولكنه قصر النظر (بدو) وحب السلطة..