في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري والتونسيون مستغرقون في أخبار الإرهاب صادق مجلس الوزراء على مشروع القانون التالي:
"مشروع قانون يتعلق بالتفويض إلى رئيس الحكومة في إصدار مراسيم طبقا للفقرة الثانية من الفصل 70 من الدستور. ويتعلق التفويض بإصدار مراسيم في مواضيع تتعلق بتعبئة الموارد الخارجية عن طريق القروض في حدود المبلغ الجملي للدين الخارجي فضلا عن المعاهدات الدولية المتعلقة إما بالانضمام إلى منظمات توفر تعاونا دوليا أو إقليميا، أو موافقة على معاهدات متعددة الأطراف ذات طابع اقتصادي أو فني".
بمعنى آخر، بعدما كان الائتلاف الأغلبي يصادق بشكل روتيني ودون تمحيص على مختلف القروض سيقوم في الأشهر القادمة بـ"تفويض" الحكومة، أو الأصح، تعليق الحق الدستوري لمجلس نواب الشعب في مراقبة الدين العمومي. نعم هناك "روائح كريهة" في مجلس نواب الشعب، مثلما أشار أحد النواب ولو في سياق وبمعنى آخرين.
الضغط على الحكومة التونسية من قبل القوى الدولية يزيد تعاظما، خاصة كلما تزايدت التحديات الأمنية، ويتم تقديم ذلك على أنه "ضروري لجلب الاستثمار، ومطلوب من قبل المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي". المشكل أن الحلول التي يتم تقديمها والتي تقوم أساسا على الفرضية النيوليبرالية المتمثلة في أن المحرك الأساس للاقتصاد هو الاستثمار الخاص، وأن المشكل الأساس في تونس أن هذا الاستثمار الخاص لم يلق حظه إزاء وضع الاستبداد والمحاباة السابقين، هذه الفرضية تحديدا لن تحل المشكل الاقتصادي والاجتماعي الذي يمثل القاعدة الموضوعية لتنامي الإرهاب، بل يمكن أن تفاقم فيها.
صندوق النقد الدولي لم يقم بما يكفي من النقد الذاتي بل أكثر من ذلك، يواصل تكرار الأفكار والرؤى نفسها في علاقة بـ"الإصلاحات" الواجبة في تونس. لنأخذ مثلا آخر، تقرير أصدره قبل اندلاع الثورة في تونس. كان ذلك في سبتمبر 2010 حيث مدح الوضع في تونس وخاصة مؤشرات النمو، ويدعم توجه نظام بن علي بتجميد الإنفاق على الوضع الاجتماعي. يقول التقرير بالحرف: "الحذر الضريبي يبقى أولوية أساسية للسلطات التونسية… وهي مصممة على مراقبة أي نفقات خاصة التي تتعلق بصندوق الدعم". الآن يتم تكرار الشيء ذاته: المشكل الأساسي في تونس هو الإنفاق الاجتماعي وخاصة صندوق الدعم.
المفارقة، أن الدراسات الأخيرة، بما في ذلك التي تنتجها المؤسسات المالية الدولية، تؤكد أن أساس الأزمة في المنطقة العربية، التي أنتجت الثورات والانتفاضات والحروب الأهلية، ترجع تحديدا لإشكالات تتعلق بالتفاوت الاجتماعي، وليس بقمع الاستثمار الخاص والإنفاق الاجتماعي. ينطبق ذلك على آخر الدراسات التي نشرها البنك الدولي في أكتوبر 2015 بعنوان: "التفاوتات والانتفاضات والصراع في العالم العربي".
ويستغرب التقرير في مقدمته إذ يقول: "تمثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لغزا. فالمنطقة كانت تحقق تقدما مطردا نحو بلوغ هدفي البنك الدولي المتمثلين في إنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك… فمؤشرات التنمية القياسية عجزت عن رصد انفجار الغضب الشعبي أو التنبؤ به خلال ربيع عام 2011. وبالتالي، فما الذي يفسر هذه المعضلة التي نشير إليها باسم "لغز التفاوتات في العالم العربي"؟ هل كان التفاوت الاقتصادي أعلى كثيرا مما تشير إليه بيانات الإنفاق الأسر المعيشية؟ أم هل كانت المظالم مرتبطة بعوامل أخرى بخلاف التفاوت الاقتصادي، مثل تدهور نوعية الحياة بشكل عام، أو تنامي الفساد، أو انعدام الحرية؟".
والحقيقة أن المنوال الليبرالي التابع الكلاسيكي السائد في تونس يعتمد أساسا على مؤشرات "النمو الاقتصادي" (Croissance Economique/Economic Growth) وحدها. إذ إن التجربة التونسية، خاصة خلال منظومة الاستبداد والفساد، كانت من أهم الأمثلة على أن النجاح لا يمكن قياسه بنسب "النمو". إذ كانت نسب النمو بين سنة 1990 و2010 مستقرة في معدل يصل إلى 5% غير أن "مؤشر التنمية البشرية" (Human Development Index) أو HDI كان يتدنى بشكل مستمر إذ تحول من 1,87% سنة 1980 إلى 1,51% سنة 1990 إلى 1,01% سنة 2010.
وهكذا، فإن مؤشرات النمو الاقتصادي بعكس مؤشرات التنمية البشرية تستند حصرا إلى الحسابات الكمية بناء على معطيات الناتج الداخلي الخام والتي تتميز بتجردها عن بقية المؤشرات الكمية والنوعية المتعلقة بمستوى العيش، والظروف الصحية والتربوية والبيئية للمواطنين والأجيال القادمة، وهي المؤشرات الممثلة لمفهوم التنمية البشرية.
ويؤكد تقرير البنك الدولي: "وضعت انتفاضات الربيع العربي قضايا الإنصاف والاحتواء في مقدمة الاهتمام العام". ويضيف لاحقا: "لا يمكن للمواطن العادي أن يكون له نصيب في الرخاء الذي تحققه معظم الشركات الناجحة في البلدان العربية. ويصعب أيضا تحديد وتتبع ثروات أصحاب المليارات في المنطقة".
وأخيرا ينتهي التقرير إلى خلاصة واضحة، وهي الأهم هنا: " الإنفاق لم يكن من العوامل المسببة لأحداث الربيع العربي. فالتفاوت في الثروة، الذي هو أصعب في قياسه، كان أكبر على الأرجح وربما أسهم في اندلاع هذه الانتفاضات. فعامة الناس أصيبوا بالإحباط لعدم تمكنهم من الانتفاع من الرخاء الذي حققته الشركات العربية الكبيرة التي كانت في معظمها شركات خاصة أو مملوكة للدولة... وفي المقابل، اشتكى المنتمون للطبقة الوسطى من التردي في مستويات معيشتهم، وارتباط ذلك بنقص الوظائف الجيدة، وعدم الرضا عن الخدمات العامة".
ورغم ذلك، تواصل المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدولي، التركيز على حلول تعمق التفاوت الاجتماعي رغم أن دراساتها توضح أن أساس الاضطراب السياسي، سواء في شكل احتجاجات اجتماعية أو حروبا أهلية وما يتخلل ذلك من إرهاب، هو تحديدا هذا التفاوت وليس الإنفاق العمومي للتقليص من الحيف الاجتماعي. في حين، تطالب هذه المؤسسات تحديدا بالتقليص في هذا الإنفاق ذي الطابع الاجتماعي.