على الرغم من وفرة البحوث النظرية والدراسات التطبيقية، التي سلطت الضوء على المرجعية الفكرية والفلسفية والتمظهرات العملية لاصطلاح
المواطنة، فإن هذه الأخيرة تبقى مضببة المعنى، مشوشة المضمون، هلامية المجال: وضع قانوني مكون من حقوق ومسؤوليات، نشاط سياسي صرف، تعبير عن انتماء لهوية أو لمجموعة، مظهر من مظاهر التضامن في الزمن والمكان...إلخ. الكل ينظر للمواطنة من زاويته الخاصة، حتى أضحت هذه الأخيرة، والحالة هاته، مكمن عمليات تمطيط واسعة، قد تذهب بها إلى حدود إفقادها المضمون، وتقليص إطار الفعل العملي من بين ظهرانيها.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان الأصل مشوشا، غير ثابت البنيان والملامح، فإن الفروع المتأتية منه، وضمنها فرع "المواطنة متعدية الحدود"، سيطالها التشويش حتما، لا بل ولا يكون لبنيانها وملامحها من مستقر.
بيد أن معظم الأدبيات الرائجة حول هذه الإشكالية، غالبا ما تحيل على أبعاد في المواطنة متكاملة فيما بينها، أي متمحورة في عمومها حول الأبعاد القانونية والسياسية، كائنة ما تكن جهة
الانتماء، وطنية أو إقليمية أو عالمية، أعني متعدية الحدود في الحالتين الثانية والثالثة، قطرية الفضاء في الحالة الأولى.
ويصرف النظر عن الأبعاد الجامعة أو "المفرقة" في مقاربة مسألة المواطنة، فإن الثابت اليوم، في ظل اكتساح ظاهرة العولمة وانفتاح الأسواق
الوطنية، وتواصل الثقافات وحرية تنقل الأفراد والجماعات، وانتشار الشبكات الرقمية والأقمار الصناعية العابرة للقارات، الثابت أن المواطنة "الوطنية" (المرتبطة بالدولة/الأمة أقصد) قد تراجعت كثيرا أمام "نوع" من المواطنة جديد، عابر للحدود، غير مكترث كثيرا بالمتاريس المفروضة، ولا باللوائح والتنظيمات المقامة.
ولذلك، فإن الذين يدفعون بطرح المواطنة متعدية الحدود أو المواطنة العالمية، إنما يبدو لهم أن المواطنة المرتبطة بالدولة الوطنية (الدولة/الأم بمنطوق علماء الاجتماع والسياسة)، لم تعد مجالا كافيا للتعبير عن الحقوق والمسؤوليات "الجديدة"، التي باتت تتجاوز على سلطة العلاقة التي تربط المواطن بالوحدة السياسية التي ينتمي إليها، وهي الدولة كحقيقة جيوسياسية قائمة. بالتالي، وجب التفكير برأيهم، في تحديد أسس وقواعد "مواطنة متعددة"، يكون خيطها الناظم وحدات سياسية متنوعة (كما الحال بالاتحاد الأوروبي) أو مواطنة بمستويات مختلفة، كما حال اسكتلندا مع بريطانيا أو الكيبك مع كندا.
صحيح أن المواطنة تحيل صوبا على ثلاثية "السياسة والجنسية والانتماء الجغرافي". وصحيح أن الدولة الوطنية هي المرتكز المادي الذي تتأسس عليه المواطنة وتتمظهر، إلا أن تطور الشروط التاريخية بات يستوجب مقاربة يخرج الثلاثية إياها من الاختزالية التي طالما طالتها، ويفسح المجال لتجاوز الشرط الذي مفاده أن لا مواطنة دون دولة وطنية، ولكأن المواطنة معطى قارا لا يتحدد مستواه إلا بالرجوع إلى مستويات أخرى، دنا شأنها أم عظم.
ولذلك، فإن التفكير في المواطنة اليوم، يجب أن يخضع هذه الأخيرة لدينامية تاريخية، ويضعها في سياق انبعاث وحدات سياسية متعدية الحدود، تعبر عنها مستويات فوق/وطنية، كما الحال مع الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو ما سواها من تجمعات جهوية وجغرافية، سياسية واقتصادية.
لا يروم التلميح هنا فقط إلى بروز مشاكل كونية كبرى، من قبيل التلوث والإرهاب والجريمة المنظمة ومخاطر البيوتكنولوجيا، التي أفرزت مسؤوليات جديدة على المواطنة "الوطنية"، بل يروم أيضا حاجة الكون إلى أدوات حكامة جديدة، يكون من شأنها تقوية قدرات الأفراد ومكونات المجتمع المدني العالمي، على نشر القيم المدنية المشتركة، وإشاعة الوعي بضرورة معالجة قضايا الكون من منظور جماعي واسع، لا من زاوية قطرية ضيقة.
المواطنة هنا لا تحيل فقط على دور البنيات المؤسساتية (الخشنة والناعمة على حد سواء) في بناء الوحدات السياسية، بل تحيل أيضا على دور الفاعلين، بما هم محرك هذه الوحدات ومصدر شرعيتها في الزمن والمكان. فإذا كانت للمواطنة "الوطنية" (أو ما تبقى منها، في ظل الاختراق الذي يطالها من القاعدة ومن القمة) فاعلوها الذاتيون الذين يعبرون عنها في محيط ما وفي زمن ما، فإن للمواطنة متعدية الحدود فاعلوها أيضا، تجسدهم المنظمات الأممية والدولية، والتنظيمات المدنية والحركات الفكرية وما سواها.
إنها تشكيلات فوق/وطنية لا تعبأ كثيرا بالقضايا الفئوية الظرفية أو الجانبية، حتى وإن كانت ذات مضمون وطني كبير، بقدر ما تدفع بضرورة أن تكون القضايا الكونية هي المحك بمقياس الحقوق والمسؤوليات. والشاهد على ذلك أن العديد من القضايا الكبرى باتت تتجاوز صلاحيات وقدرات الدول الوطنية، وتستوجب إعمال مبادئ جديدة للحماية ضد التهديدات الجديدة، التي أضحى الناس تحت رحمتها بشمال الكرة الأرضية كما بجنوبها.
إنها بالتالي، تشكيلات تطمح إلى أن تنسج على منوال الشركات متعدية الجنسيات، حيث الكون، كل الكون، مجال اشتغالها وإطار حلها وترحالها. بيد أن الفارق بين الطرفين (المواطنة متعدية الحدود والشركات متعدية
الجنسية)، إنما يكمن في أن هذه الشركات تدافع وتدفع بجهة أن يتحول العالم إلى ملك خاص وإلى سوق كوني مفتوح، في حين تدفع التشكيلات السياسية ما فوق/وطنية إلى أن يكون العالم ملكا كونيا مشتركا ومستداما.. ملكا للإنسانية كلها، لا لفصيل معين ضمنها.