جاءت هذه الانتفاضة مربكة للحسابات والتوقعات، وحضرت رغم محاولات تلافيها من قبل الاحتلال وبعض القوى المنسجمة في المنطقة، وحتى اللحظة هناك حالة إنكار إسرائيلية تدعمها بعض الأصوات الفلسطينية لإيهام الشعب أننا أمام أحداث عابرة غير مؤثرة، ليست انتفاضة ولا تنتمي لفصيلة الثورات وغير قابلة للتمدد والعيش والاستمرار، فيطلقون عليها هبة، يعدون تقارير إعلامية توحي أنها أيام وستنتهي يحاولون التقليل من أخبارها.
وقد يساعدهم نمطية وشكل هذه الانتفاضة ورتمها وتأثرها بالواقع الجيوسياسي، والذي فيه تعزيز للانقسام الجغرافي والسيطرة الميدانية، فالانتفاضة الأولى كان الاحتلال يسيطر ومسؤول عن الضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 48، وفي انتفاضة الأقصى عام 2000 كانت السلطة الفلسطينية تسيطر على أجزاء كبيرة من الضفة وغزة والواقع الميداني والسياسي متشابه بينهما في تلك اللحظات، أما في هذه الانتفاضة فنحن أمام ثلاث حالات مختلفة، قسم مع الاحتلال بالكامل، وقسم يخضع لنفوذ السلطة، كما أن واقعا جديدا في غزة صنعته حركة حماس، وكل منطقة لها طبيعة ومعادلات صراع مختلفة، لهذا التناسق الموحد الذي ظهر في الانتفاضات السابقة نفتقده اليوم، فواقع غزة السياسي والجغرافي وطبيعة العلاقة مع الاحتلال يختلف عن واقع وطبيعة ومعادلة صراع الضفة الغربية، حتى في الضفة هناك مناطق أكثر تداخلا واحتكاكا مع الاحتلال من أخرى، لهذا نشاهد حالة ثورية منسجمة وعامة ولكنها مختلفة شكلا من منطقة إلى أخرى.
الأمر الآخر كل جيل من الأجيال له سمته وطريقته في الثورة وتحدي الاحتلال، واليوم يتقدم الساحة جيل له سمات خاصة فقد عانى من الانقسام ولم يشهد الانتفاضة الأولى، ولم يدرك بوعي انتفاضة الأقصى، ولديه معرفة وإجادة أعمق في الإعلام ويستخدم التكنولوجيا ومنفتح على العالم، وقادر على التحكم بالصورة والكلمة والرواية ويمتلك وسائل تفاعل ذاتية تربطه بالحدث، كما أن غالبيته غير مؤطر ومنظم، لديه جرأة وقدرة على اتخاذ القرار الفردي، لهذا أوسع حالة عمليات فردية في تاريخ فلسطين شهدتها انتفاضة القدس، فيوميا وعلى مدار أكثر من شهر وهناك حالة طعن أو دهس أو محاولات لاستخدام البنادق وجميعها من غير توجيه وتنظيم تخرج ذاتية الدفع والتوجيه.
كما أن تمركز هذه الانتفاضة في القدس يعطيها ميزة وبعد آخر مختلف، وتكشف الأطماع الإسرائيلية في هذه المدينة وتنبه المسلمين والعرب بشكل عام حول خطورة ما يجري بفلسطين ومستقبل الحرم القدسي الشريف، كما أن القدس خارج سيطرة السلطة ولهذا غير قادرة على احتوائها والالتفاف عليها.
وتأتي هذه الانتفاضة وفق واقع عربي مهترئ وضعيف ومنقسم وأنظمة داعمة للمقاومة زالت وانقسمت، وموقف مصري غارق بفوضى الأحداث الداخلية، بالإضافة لتراجع اهتمام الولايات المتحدة بالقضية، وهذا ما شهدته دبلوماسية كيري قبل الانتفاضة، وحقيقة أضحت القضية ورقة هامشية في عاصفة التغيير والفوضى التي ضربت المنطقة لولا التحرك السليم والواسع لشعبنا.
هذه انتفاضة مميزة حققت نتائج سريعة أربكت الحسابات الإسرائيلية، تحظى بإجماع فصائلي وشعبي، فرصة لإنهاء الانقسام وتعزيز برنامج وطني موحد، كما أنها جاءت لتعيد القضية لمركزيتها في المنطقة، ولهذا فإن الالتفاف عليها لن يخمدها بل قد يزيدها اشتعالا وإنضاجا، فهي الأمل الأخير لشعبنا في تحقيق مكاسبه المشروعة.
للتواصل مع الكاتب عبر موقع فيسبوك: https://www.facebook.com/ebrahema