"أنا أعتقد أنك أخطأت العنوان". ليس الأمر متعلقا بعنوان المقال، بل كانت تلك إجابة وزير العدل المغربي قبل يومين على سؤال طرحه نائب برلماني بخصوص قضية اختفاء المهدي بنبركة في التاسع والعشرين من شهر أكتوبر سنة 1965. خمسون سنة مرت على حادث الاختطاف الذي شهدته واجهة مقهى ليب بالعاصمة الفرنسية حين تقدم شرطيان فرنسيان من المعارض المغربي وطالباه بمرافقتهما ليكون ذلك آخر المشاهد المؤكدة من حياة الرجل. كل ما تلا تعددت حوله الروايات ونسجت حوله أساطير.
الحكومة المغربية في شخص وزيرها للعدل والحريات نفضت يدها من الموضوع، فالسيد مصطفى الرميد لا يرى "موجبا لمساءلة وزارة العدل لأن هذا الأمر لا يمكن أن يحل من خلال العدالة الجنائية وإنما من خلال العدالة الانتقالية" و"المجلس الوطني لحقوق الإنسان هو الجهة المخولة باعتباره الوريث الشرعي لهيئة الإنصاف والمصالحة" وهو المجلس الذي يقول البشير بنبركة، الابن البكر للمهدي، أنه لم يتلق منه لحد الآن ردا على طلب لقاء قدمه منذ عشر سنوات. بالمقابل ستعيد عائلة الرجل وعدد من المتضامنين معه وقفتها السنوية أمام المقهى الباريسي لتكرر نفس الخطاب ونفس الأسئلة. أما رفاقه بالمغرب فسينظمون تجمعات لتخليد الذكرى يطالبون من خلالها بالكشف عن مصير زعيمهم التاريخي، وهم الذين شاركوا في ثلاثة حكومات متتالية ترأسوا إحداها في زمن ما سمي بـ"التناوب التوافقي" وتقلدوا منصب وزير العدل مرتين دون أن يعرف ملف اختفاء بنبركة أي تقدم يذكر.
في شهر أكتوبر من العام 1964، حُكِم على المهدي بنبركة بالإعدام غيابيا بالمغرب. وفي الثالث والعشرين من شهر مارس 1965، عاشت مدينة الدار البيضاء على وقع تدخل قوات الجيش لقمع إضرابات تلاميذ المدارس احتجاجا على طرد كثير من زملائهم لاعتبارات عمرية. كانت الحصيلة قتلى بالمئات ومعتقلين بالآلاف، وإعلانا لحالة الاستثناء. المهدي بنبركة لم يكن بعيدا عن الأحداث من منفاه الذي استغله أيضا للعمل على توحيد نضالات شعوب دول الجنوب في إطار منظمة القارات الثلاثة، التي ترأس لجنتها التحضيرية، في أفق انعقاد مؤتمرها التأسيسي في هافانا شهر يناير من العام 1966. لقد أكد المهدي بنبركة زعامته لليسار المغربي وبدأ يشق الطريق لريادة دولية بعد أن صار محاورا لقادة من حجم جمال عبد الناصر وتشي غيفارا وماوتسي تونغ وفيديل كاسترو وآخرين.
بنبركة عاري الصدر ومكتوف اليدين وبجانبه عدد من الأشخاص. يدخل أوفقير ويتجه نحوه...
الجنرال أوفقير: أنت إذن الرجل الذي يهدد العالم الحر؟ رجل حرب العصابات والثورة؟ لكن ألم تفهم أن قبولك رئاسة منظمة القارات الثلاثة كان يعني التوقيع على شهادة وفاتك؟
المهدي بنبركة: كم دفعوا لك يا جنرال أوفقير؟ سينتقمون لي. ليس لك ما تربحه من القضاء علي. رجال مثلك أغبياء أكثر مما هم مجرمون. لن تتمكن من الوقوف ضد رغبة الجماهير الشعبية.
الجنرال أوفقير: فلتأت الجماهير الشعبية لنجدتك إذن. الأسيويون والأفارقة والكوبيون، أينهم الآن لنجدتك؟
يبصق المهدي في وجه الجنرال الذي يبادره بالصفع.
الجنرال أوفقير: ستدفع ثمن هذا أيضا ومعه ثمن خيانتك للوطن.
المهدي بنبركة: ليس لك لا وطن ولا أصدقاء يا أوفقير. وكالة الاستخبارات الأمريكية ستدعمك ما دامت في حاجة إليك وعندما سيقتلونك ستموت موتة الكلاب.
يستمر هذا المشهد من الفيلم الإيطالي (وجه الجاسوس) المعروف أيضا بعنوان (السي آي إيه، القصة السرية) الذي انتج في العام 1975 للمخرج غيسيبي فيرارا، وينتهي بغرز الجنرال لخنجر أتى به خصيصا من المغرب في أنحاء مختلفة من جسد الزعيم المختطف. كان عمر المهدي وقتها خمسا وأربعون عاما.
في الفيلم الفرنسي (رأيت بنبركة يُقتل) المنتج سنة 2005 لمخرجيه سعيد سميحي وسيرج لوبيرون، اكتفى السيناريو بنقل ما يحدث في الطابق العلوي لفيلا جورج بوسيتش، أحد أفراد الشرطة الفرنسية المساهمين في اختطاف بنبركة، على لسان الشخصيات وعلى خلفية أصوات صرخات ألم المهدي وتأوهاته من التعذيب وصراخ اوفقير والدليمي وأعوانهما المغاربة. ولأن ما حدث بالفعل لا يزال سرا، فقد تعددت الروايات من قائل أن القتل تم بالخطأ على يد بوسيتش قبل وصول رجال المخابرات المغربية، وقائل أن أحمد الدليمي، مدير الأمن المغربي وقتها، قتله عن طريق الخطأ، مرة أخرى، بغطسه في الماء كما أشار إليه رافي إيتان حين أقر بمساهمة الموساد في عملية الاختطاف والمساعدة على "محو آثار الجريمة"، وقائل أن الممرض بوبكر الحسوني حقن المهدي بجرعة تخدير زائدة أدت لوفاته، ومؤكد على أن أوفقير أشرف شخصيا على "حفلة التعذيب" في إطار تصفية حساب تداخل فيها الوطني ممثلا في منع التوافق بين الرجل والملك الحسن الثاني بالدولي الراغب في إفشال انعقاد مؤتمر هافانا وهكذا كان.
عن قضية المهدي بنبركة كتب المؤرخ الفرنسي المعروف دانيال غيران جملته الشهيرة: "ستكون حياة هذا الميت مديدة، ستكون لهذا الميت الكلمة الفصل". وفي انتظار أن يتأكد الجزء الثاني من "النبوءة" أثبتت الخمسون سنة الأخيرة أن "لعنة المهدي بنبركة" أصابت العديد من المساهمين في اختطافه. ففي شهر يناير 1966، وُجِد جورج فيغون، الذي شكل الطعم الذي أسقط بنبركة في الفخ بعد أن أقنعه باللقاء بباريس بدعوى إنتاج فيلم عن مرحلة تصفية الاستعمار، ميتا بشقة بباريس سُجلت انتحارا. جورج فيغون هو الذي فضح قضية الاختطاف على صفحات إحدى الصحف الفرنسية فصل فيها الحديث عن الواقعة بالأسماء والوقائع بعد أن تخلى عنه الجميع، وكان سببا في إخراجها للعلن وتحويلها لقضية دولة بامتياز. وفي العام 1971، وُجِد التهامي الزموري، الذي كان مرافقا للمهدي لحظة اختطافه وأعلم عائلته بالأمر، معلقا بحبل داخل شقته الباريسية فسجلت وفاته انتحارا. بعدها بسنة "انتحر" الجنرال أوفقير بخمس رصاصات بعد فشل محاولته الانقلابية على الحسن الثاني. ثم تلاه رجال الشرطة الفرنسيون الأربعة المشاركين في العملية، وهم الذين اختاروا اللجوء بالمغرب قبل أن يسجنوا أولا ثم يقتلوا بعد أن صاروا عبئا على المضيفين..
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد حيث مات أحمد الدليمي في حادث سيارة بضواحي مدينة مراكش بالمغرب بداية ثمانينيات القرن الماضي ليكتمل عقد اختفاء المشاركين الفعليين الذين وردت أسماؤهم في محاضر المحاكمة التي عاشتها فرنسا على إثر "الفضيحة"، واستمرت تسعة أشهر كاملة في شهر سبتمبر من العام 1966، بحضور أكثر من 150 شاهدا انتهت بأحكام سجن كان أبرزها من نصيب أنطوان لوبير، العميل المزدوج للمخابرات الفرنسية والمغربية بمطار أورلي. ومع مر السنين ظهرت أسماء أخرى كثيرة لعل أهمها جاء في كتاب "السر" لضابط المخابرات المغربي أحمد البوخاري حيث كشف "تفاصيل" العملية ومعها أسماء الفريق المشرف عليها من داخل الجسم المخابراتي المغربي.
في الثاني من شهر اكتوبر الجاري، توفي الممرض بوبكر الحسوني، الذي يعتبره البعض "المشتبه به الرئيسي" في وفاة المهدي بنبركة، وبدأت لائحة المتهمين الأحياء تضيق ومعها آفاق حل لغز اختطاف واغتيال الزعيم اليساري. والسؤال الأهم: أين دفن المهدي؟
مرة أخرى تعددت الروايات بتعدد أصحابها ومن خلالهم أهداف الإعلان التي قد لا تكون دوما بريئة. قالوا أن الجثة مدفونة على نهر السين بقرب الفيلا التي شهدت عملية القتل، ثم قالوا أنها مدفونة تحت مسجد ايفري بباريس، ثم قالوا أن الرأس نقلت إلى الرباط وبقي الجسد في باريس قبل أن يعلن أحمد البوخاري أن جسد المهدي بنبركة نقل إلى المغرب وأذيب في حوض للأسيد. لكن الجديد في الموضوع هو ما حمله فيلم وثائقي بثته القناة الثالثة الفرنسية بداية شهر أكتوبر الجاري بعنوان (بنبركة، الهاجس) لمخرجه اوليفي بوكرو، الذي أعاد التأكيد على رواية كان استقاها جوزيف تيوال، الذي قضى ربع قرن في البحث في القضية، من المعارض المغربي علي بوريكات يؤكد فيها أن جسد المهدي بنبركة ومعارضون آخرون مختفين مثل الحسين المانوزي مدفون في جانب من مقر للاحتجاز اسمه "النقطة الثابتة 3"، الموجود في قلب حي السويسي السكني الراقي بالعاصمة الرباط قبل هدمه وتركه أرضا خلاء ممنوع البناء عليها.
جوزيف تيوال تمكن من تصوير المكان قبل خمس عشرة سنة خلت قبل أن يتحول إلى مزرعة أشجار برتقال تبين صور الأقمار الاصطناعية أن الجزء الذي يعتقد أنه كان مخصصا لدفن جثث الموتى من المعارضين لا يزال عاريا حيث إن المواد الاسمنتية المستعملة في الدفن تمنع نمو أي غطاء نباتي.. وتفاعلا مع هذا المعطى بادر مصطفى المانوزي، رئيس المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف، إلى "المطالبة بالتحفظ على النقطة الثابتة 3، واستكمال التحريات والحفر وإجراء معاينة وخبرة للتأكد من وجود أو عدم وجود جثامين هناك".
يحكي الفيلم الوثائقي أن العربي الشتوكي واسمه الحقيقي ميلود التونزي، وهو الذي أشرف على عملية التحضير وتنفيذ عملية اختطاف المهدي بنبركة، يعيش غير بعيد عن الشارع الذي يحمل الاسم ذاته بالعاصمة الرباط. ميلود التونزي الذي امتلك الشجاعة لرفع دعوى ضد الصحفي تيوال وضد محامي عائلة بنبركة يشكل الحلقة الأخيرة في الدائرة الضيقة التي نفذت العملية وتمتلك أسرارها. وفي حال وفاته قد نحتاج إلى الموتى ليحكوا لنا الوقائع تماما كما استعار مخرج فيلم (رأيت بنبركة يقتل) صوت جورج فيغون "المنتحر" ليحكي لنا التفاصيل. كانت خطة الاستدراج فيلما عن تصفية الاستعمار تحول إلى تصفية جسدية لمناضل ثوري أممي صار اختفاؤه فيلما سينمائيا مشوقا بلا نهاية..
عنوان الفيلم المقترح كان (باسطا)، وهي كلمة اسبانية تعني (كفاية). منذ الاختطاف تناوب على الملف عشرة قضاة تحقيق فرنسيون، ورفض كل رؤساء الجمهورية استقبال غيثة زوجة المهدي، ولا تزال الدول المالكة لوثائق سرية عن الموضوع ترفض السماح برفع السرية عنها وصدى (باسطا) يتردد في آذان الجميع.
في الذكرى السادسة عشر لاختطاف والده، صرح البشير بنبركة لإحدى القنوات الفرنسية قائلا: "منذ ستة عشر سنة ونحن نتقصى الحقيقية التي لا نعرفها إلى اليوم"، وهو تصريح ممتد إلى يوم الناس هذا، نصف قرن بعد اختفاء المهدي بنبركة.