كتب إياد أبو شقرا: لا توافق جديًا حتى الآن في أوساط راصدي الوضع السوري حول حقيقة الموقف الأميركي من التدخّل الروسي العسكري المباشر. ومعظم التحليلات التي تخرج من هنا وهناك تبدو أقرب إلى التخمين منها إلى المعلومات الموثّقة.بين المحلّلين مَن يرى أن الصمت الأميركي الفعلي يندرج في سياسة واشنطن المألوفة منذ أكثر من أربع سنوات إزاء سوريا، بل إن بعض المحللين السياسيين ينزع إلى القول إن سكوت واشنطن عن تصرّفات موسكو يشير إلى تفاهم ضمني يقوم على تسليم أميركي بإشراف روسي على سوريا.. مقابل هيمنة أميركية على العراق.
وهناك من يميل أكثر إلى الظن خيرًا بالموقف الأميركي، مرجّحًا رغبة واشنطن في «توريط» روسيا بمستنقع مزعج لن يخرج منه الروس - وفق هؤلاء - منتصرين، لكنهم سيُضعفون خصوم واشنطن التقليديين. ويذهب فريق ثالث من المحلّلين إلى ترجيح رغبة واشنطن بتحديد طموح الإيرانيين الإقليمي الجامح، وطمأنة ما تبقّى من مسيحيين وأقليات دينية ومذهبية في المنطقة عبر «تكليف» روسيا تنظيم خروج مشرّف ومطمئن لبشار الأسد، مع الإبقاء على هيكل «الدولة» في سوريا.
كل هذه تخمينات جديرة بالتمعّن والأخذ على محمل الجد، ولمَ لا؟ فهي على الأقل ظاهريًا تبدو منطقية، وإن كانت بعيدة كل البعد عن أخلاقيات حقوق الإنسان وتقرير المصير.لكن ما يقلق في موضوع القصف الجوي الروسي حتى الآن أنه، بخلاف ادعاءات موسكو، لم يستهدف مواقع «داعش» ومعاقلها ولو بنسبة 1 من 10 بالمقارنة مع استهدافه معاقل المعارضة المعتدلة.. المفترض أنها القوى التي يريدها المجتمع الدولي شريكًا أساسيًا في الحل السوري الموعود. فما فعلته الطائرات الحربية الروسية حتى الآن، وكذلك إسهامها في الهجوم البرّي الذي سرّب كلام كثير عنه، هو إلحاق الأذى بمن هم البديل المقبول وليس «داعش»، وهذا بالضبط ما يريده الأسد، وما تريده طهران.
هذا الواقع يكذّب كل الادعاءات السياسية الصادرة عن موسكو حول حقيقة غايتها من الانخراط المباشر في الحرب السورية، وآخرها ادعاء رئيس الوزراء الحالي ديمتري ميدفيديف يوم أمس أن «هدف العملية العسكرية الروسية في سوريا ليس دعم الرئيس السوري بشار الأسد - الذي تصرّ موسكو حتى اللحظة على اعتباره (الرئيس الشرعي لسوريا) - وإنما التغلب على متشدّدي (داعش)»!ومن جانب آخر، مفهومٌ أن روسيا لا تنشط وحدها في المشهد العسكري السوري، بل هناك أيضًا إيران التي تعدّ العدّة، كما أشيع خلال الأيام القليلة الفائتة، لهجوم برّي كبير يهدف إلى مساعدة النظام العاجز عن استعادة سيطرته على مناطق شمال غربي البلاد.
وهي مناطق خسرها في المواجهات مع قوى المعارضة في محافظات حمص وحماه وإدلب وحلب.وكان لافتًا «تكامل» العمليات العسكرية المستمرة التي يوفّر لها الطيران الحربي الروسي التغطية الجوية، في جبهة حلب تحديدًا، مع تجدّد هجمات «داعش» على مناطق سيطرة المعارضة في ريف محافظة حلب.. مع أن المفروض أن غارات هذا الطيران تُشنّ على «داعش» وليس على من يهاجمهم التنظيم المتطرف المشبوه!
أضف إلى ذلك أن التركيز الملحوظ للعمليات الروسية على جبهة سهل الغاب في جنوب إدلب وشمال غربي حماه وجبل الأكراد في ريف اللاذقية الشمالي الشرقي، لا علاقة له البتة بمقاتلة «داعش»، بل بإبعاد أي خطر عن الحدود الشرقية لمحافظة اللاذقية، المعقل الطائفي للنظام. والشيء نفسه ينطبق على جبهات الجنوب، حيث ينصبّ هم كل من موسكو وطهران على حماية مرافق النظام ومؤسساته في العاصمة دمشق وضواحيها.ممّا لا شك فيه أن لا أحد يريد فراغًا أمنيًا وسياسيًا كاملاً في سوريا على غرار ما حصل في العراق، وجرّ كوارث إنسانية وأمنية لم تنتهِ حتى اللحظة.
ومن المؤكد أنه حتى المعارضة الحقيقية - لا معارضة قدري جميل وعلي حيدر - ترى مصلحة لها في المحافظة على الحد الأدنى من البنى المؤسساتية للبلاد، وطمأنة الأقليات، وإبعاد القوى الإلغائية المتطرفة عن مركز القرار. لكن الصحيح أيضًا أن المجتمع الدولي لا يخاطب السوريين بلسان واحد، ولا يتحرك جديًا لكبح جماح آلة القتل النظامية والمشروع الإيراني «العسكريتاري» الطائفي الصارخ.
إن إيران تتصرّف اليوم في سوريا ولبنان، تمامًا كما تتصرّف في العراق، كـ«دولة كبرى منتدبة» وراعية لغلبة طائفية ديموغرافية مسلحة يراد لها أن تحظى بالشرعية السياسية والدستورية. وهي الآن تستغل الاتفاق النووي الذي عقدته مع أميركا والغرب، ورفع العقوبات المفروضة عليها دوليًا، وانشغال تركيا بالهمّين الانتخابي والكردي، للمضي قدمًا في تثبيت هذا الانتداب الفعلي.
هذا الوضع الشديد الضبابية يحمل معه نُذر مخاطر عظيمة على مستوى المنطقة ككل. ومع دخول إدارة الرئيس باراك أوباما في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل سنتها الأخيرة في السلطة، يجوز القول إن الشرق الأوسط الذي عرفه أوباما رئيسًا لأول مرة قبل سبع سنوات أضحى مكانًا مختلفًا جدًا.
ولئن كان من العبث الرهان على مقاربة أميركية جديدة خلال الأشهر القليلة المقبلة تغيّر اتجاه البوصلة أو تعدّل سرعة التغيير، فإن الثوابت المألوفة فيما يتعلّق بالسياسات الشرق الأوسطية في تناقص مستمر.
بكل صدق، دورا كلّ من مصر وتركيا قد لا يظلان من الثوابت، وربما لن تحتفظ التكتلات الإقليمية الحالية بتماسكها خلال المستقبل المنظور في ضوء اختلاف الاجتهادات وتعاكس المصالح القصيرة الأمد. أما الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإنه أخذ يخرج تدريجيًا من حالة الردع والردع المضاد. ومع تساقط القتلى في شوارع المدن وأطراف المستوطنات، طعنًا وقتلاً، وسط تواطؤ سياسي وأمني فظيع من حكومة بنيامين نتنياهو، وإجراءات عقاب جماعي وإعدامات شوارع تصب الزيت على النار، لا يعود بالإمكان ضمان أي شيء.
إن المنطقة على طريق المجهول في ظل انعدام الصراحة.
وما لم تراجع واشنطن - وبسرعة - تقييم حالة المنطقة بعد «صفقة» روسيا وإيران المعقودة باسم محاربة الإرهاب تحت اسم «مركز بغداد»، ستكون التداعيات كارثية!
(عن صحيفة الشرق الأوسط- 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2015)