لا شك أن المشهد في فلسطين يدفع العاقل إلى التفكر مليا وإرجاع الذاكرة إلى الوراء قليلا وكثيرا، فيستعيد شريط الأحداث من ثورة القسّام مرورا بمعركة القسطل، وإلى يومنا هذا الذي نعيشه ونحن نرى فتية في صور مختلفة عن أجيال مضت. بالطبع قد قامت ثورات ومقاومات مباركات في فلسطين، تميزت كلها بطيف مشترك من جيل الشباب والكبار، وبمختلف مراحلهم العمرية ومواقفهم وخلفيات الأحزاب والحركات التي انتموا إليها.
مرت انتفاضتان مباركتان، سميت الأولى انتفاضة الحجارة وبدأت في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1987، أبطالها أطفال الحجارة. وبدأت شرارة انطلاقها من جباليا في غزة فلسطين، عندما دهس ذلك المارق الصهيوني مجموعة من العمال الفلسطينيين بشاحنته عند معبر إيرز. فعمت شرارة تلك الانتفاضة جميع قرى ومخيمات فلسطين، ولكن من أخمد انتفاضة الحجارة كانت طبخة اتفاقية أوسلو في عام 1993، التي جاءت بالسلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني.
كانت نسبة من قتل من الصهاينة المارقين إلى من استشهد (نحسبهم عند الله) من الفلسطينيين 12.3%. وفي أقل من سبع سنوات، وبالتحديد في 28 أيلول/ سبتمبر 2000 اندلعت شرارة العزة والكرامة والغيرة على المسجد الأقصى المبارك، عندما دخل الصهيوني المارق السفاح أرييل شارون إلى باحات المسجد الأقصى، فكانت جموع المصلين التي تصدت لذلك الهالك وزبانيته. والذي أدى إلى انخفاض سعر تلك الانتفاضة قمة شرم الشيخ، التي جمعت رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس والقاتل أرييل شارون. لكن الملفت للنظر أن نسبة من قتل من الصهاينة المارقين إلى من استشهد (نحتسبهم عند الله) من الفلسطينيين في تلك الانتفاضة قد بلغت 24.22%، أي حوالي ضعف نسبة انتفاضة الحجارة، فكيف ستكون تلك النسبة عندما تعم انتفاضة شاملة الدم الفلسطيني والإنساني؟ ولكنه كان وسيظل أمام الأقصى والعزة والكرامة للإنسانية يرخص مهما طال القهر والظلم والبغي والاغتصاب والاحتلال.
إن المشترك بين الانتفاضتين الأولى والثانية هي طريقة وأدهما، وذلك من خلال سلطة أوسلو ومشتقاتها والأنظمة والدول والكيانات التي تدعمها. واليوم نتساءل عن الكيفية التي يريدون بها اغتيال حق شعب أعزل في الثورة على انتهاك صارخ جديد لحرمة المسجد الأقصى وكرامة الإنسان الفلسطيني، وقتل وإهانة شرفه وعرضه أمه وأخته وابنته؟ هم هؤلاء الفتية في الأرض المباركة من أدركوا وفهموا التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، فكانت نتيجته جيل جديد يتصدر المشهد في فلسطين، كل فلسطين من النهر إلى البحر وليس مجرد ثورة وفقط.
منا من يقول إن الانتفاضة الفلسطينية هي نتاج الترهل العربي واستغلال إسرائيل ذلك الوضع المتردي وتقسيم الأوطان، وإهلاك قدرات جيوشه وتحويل الاقتتال إلى الشعوب ذاتها وبينونتها؛ ولكننا نقول: دعونا نكون واقعيين، فمتى كان الوضع العربي غير مترهل؟ نعم فُكك العراق، وحل جيشه الصنديد، ودمرت وحدته، وأذكيت النعرات الطائفية .. نعم تعانقت إيران وحزب الله في مستنقع الدم وتفتيت سورية الشهباء ودعم الظلم والطغيان، وفيالق قدسهم التي سمعنا بها لا تحرك ساكنا إلى فلسطين، ولكنها تحركت نصرة للظلم والبغي وحرق الأخضر واليابس.. نعم مصر الأبية على الظلم والطغيان تملك زناد البغي فيها مارقون عن الحق، بل ازدادوا في طغيانهم وبغيهم يغرقون غزة الأبية بمياه ستغرق طغاتهم بإذن الواحد الأحد.. نعم هنالك من قسم القدس مكانيا في أروقة الأمم المتحدة؛ وهو يغازل سدنته .. نعم هناك من نظر من مشايخنا عن السلم قبل العدل في أروقة الأمم المتحدة، ولم نسمعه يتكلم عن البغي في فلسطين والأقصى في خطابه ذاته.. نعم هنالك من فعل ويفعل شرقا وغربا لإهلاك كل من يقاوم المحتل، الذي شرعت لمقاومته كل الشرائع السماوية والوضعية حتى شرائع الأمم المتحدة.
ولكننا نقول لهؤلاء وبكل احترام: متى كان الفلسطيني في انتفاضته الأولى والثانية ملتفتا إلى هؤلاء الذين أهلكوا شعوبهم وسلبوهم كرامتهم وحريتهم؟ فهل تنتظر من الظالم إلا أن يأخذه الله عز وجل لحتفه أجلا محتوما غير أجل؟
اليوم نرى في فلسطين فتية أمنوا بربهم (ونحسبهم كذلك) فزادهم هدى وأتاهم تقواهم، طلبا للشهادة في سبيله سبحانه وتعالى. اليوم ترى فتية بين طفولة وريعان شباب، يخرجون بصدورهم مواجهين أعتى آلة وحشية تقاتلهم من وراء جدر.
اليوم نرى بأم أعيينا جيلا مختلفا عما سبق.. اليوم نرى في عيونهم ما يوحي الكثير لمن يجيدون قراءة لغة العيون. اليوم نراهم حقا للشهادة طالبون، وقلوبهم وعقولهم تقول: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، والعزة لنا ولا عزة لكم، اختصمنا بكم في ربنا، فسوف تصب من فوق رؤوسكم الحميم تذوقون فيها نتيجة إهداركم للإنسانية وفتككم بالإنسان والحجر والشجر والدواب.
اليوم نرى فتية فلسطين هم الجيل الجديد بنقلة نوعية متميزة، شهد لها أعداءه ففي قبة كنيسهم قالها أحد الصهاينة لرئيس وزراء كيانهم المغتصب “كنا ظننا أننا تخلصنا من أجدادهم وآبائهم فطلعوا علينا بأبنائهم …”
هؤلاء هم الفتية من حطموا الأوثان ورفعوا القرآن.. هؤلاء هم من تربوا على أن الأقصى هو في صلب عقيدتهم.. هؤلاء هم من سمعوا أنين المسجد الأقصى ليس اليوم، بل منذ إبصارهم نور ربهم عند خروجهم من رحم أمهم.. هؤلاء هم من هبوا لله غيرة على أختهم هديل الهشلمون، وريهام الدوابشة وزوجها ورضيعها، وغيرهم ذوي الأرواح الزكية .. هؤلاء لم يجدوا نخوة المعتصم عندما ركلت أمهم أمام بوابات المسجد الأقصى وهي تذود عنه ..
اليوم نرى جيلا قد قلص الفارق الرقمي والتقني حول العالم بعدما فشلت الأمم المتحدة في القيام بذلك رغم ما صرفت عليه من مليارات دولاراتهم؛ ذلك لأن العالم كله أصبح قرية صغيرة. شاهد ذلك الشعب الأعزل الذي يذود عن شرفه وإنسانيته ليكشف وللبسيط في العالم الغربي ازدواجية المعايير لدى حكوماته في التعامل مع الصهاينة المارقين، في الوقت ذاته الذي تعرت كل أقنعة الطغاة في الشرق ومن يدعمهم في الغرب لتفتيت الأوطان وسلب حق الشعوب في حريتهم وكرامتهم ومن يرضون ليأتمرون بهم عكس ما يفعلونه في ديارهم عند تطبيق ديمقراطيتهم.
هؤلاء الفتية هم من يصنعون الانتفاضة، وليست الانتفاضة من تصنع الفتية !!!
لا شك أن من يقرؤون الأحداث مركزين على الانتفاضة بشكل مستقل ومدى استعارها، يغفلون عن حقيقة موطن وباطن الأمور.
هؤلاء الفتية هم صانعوا قرار المستقبل عندما أخذوا بالأسباب فأتبعوا سببا لسبب !!!
هؤلاء الفتية هم من حطم ويحطم الأوثان، مقتدين بنبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي حطم أصنام قومه فوصفوه “فتى” باحثين عنه، قالوا: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) {سورة الأنبياء الآية 60} هؤلاء هم الفتية الذين قالوا “أُفٍ” لمن يأتمرون بعدوهم، ولمن يحاصرهم ولمن يتعاون مع من يقسم أقصاهم زمانيا ومكانيا .. هؤلاء هم من تربوا على ألا يكون إلههم هواهم أبدا، فكانت ثورتهم ثورة “الأْفِ” على الطغيان: (أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّه أَفَلَا تَعْقِلُونَ (سورة ق الآية 67).
هل رأيتم مشهد تلك الطفلة التي تربت على العزة والكرامة وهي تقول للباغي المدجج بكل الأسلحة: أنت تخاف مني.. أنت ترتعد مني ؟؟؟
هل رأيتم ذلك الجيل من رفح إلى الناقورة، فلم يعد هناك شيء اسمه فلسطيني 1948 ولا غزاوي ولا ضفاوي، بل فلسطيني واحد فوق كل فلسطين من البحر إلى النهر ؟
المشهد بعينه يقول: إن هذا الجيل هو جيل تحرير فلسطين من الاحتلال والفصل العنصري، فهذا هو الجيل الذي لم يلتفت لانقسامه الداخلي، وجعل ما يوحده هو حب الأقصى والذود عن كرامته …
رأيناهم وسمعناهم يقولون في مداخل المسجد الأقصى ” تبسم يا وطنا.. جنة جنة جنة.. يا وطن يا حبيب …”.
هؤلاء نحسبهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل، فلم يهزهم جمع عدوهم وآلتهم الوحشية، وتكالب الأمم عليها ونقرأ فيهم: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (آل عمران173).
اليوم تفصلنا عن ثورة الحجارة ما يزيد عن 28 عاما.. اليوم نتذكر نبوءة الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله بزوال الاحتلال عند ظهور الجيل الثالث. والجيل في القرآن الكريم يتبدل كل 40 عام حسبما تفضل في شهادته على العصر، فهل هذا هو الجيل الثالث ؟
هذا جيل قال “أُفٍ” لكل مغريات الفتية، والفتوة والشباب.. هذا جيل قال “لا” لكل الرفاهية، التي كان يمكن أن يحققها عن طريق الصديق والعدو القريب والبعيد، فرفض كل زينة الحياة الدنيا، وبحث عن مرضاة الله، وهو في سن المراهقة والفتوة والشباب.. فتية قالوا للظالم وأعوانه “أُفٍ” لكم وما تعبدون من الظلمة والطغاة وحب أهوائكم. فتية قد رأينا في بلادنا ومن حولنا لاهون في حلقات الألعاب الحاسوبية ومحطات ومقاهي الرفاهية يرتعون ليلا ونهارا.
لكننا وكما تعودناهم، سوف نرى المثبطين المستسلمين الواهنين المارقين عن أمتهم لا يألون جهدا في تثبيط ووأد عنفوان شجرة هؤلاء الفتية …
لقد حاولوا عبر زرع ثقافة الوهن عند الشباب من برامجهم مثل “عرب أيدول” و“عرب قوت تالنت”، وغيرها من وسائل عبر رسل السلام والتعاون بين الجامعات الصهيونية ومؤسساتها عبر جيل الشباب. لقد حاولوا ويحاولون زرع الوهن ليقولوا للشباب إذا ضربك الصهيوني المارق على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ليضربك عليه، ومن ثم الأيمن والأيسر تباعا فتصبح مسطولا.. هذا ما جسدوه في ثقافة تفاح ضرارهم وفي أغانيهم: “إزرع زيتون .. إزرع ليمون .. مقاومتنا شرعية من دون سلاح”.
أما اليوم، فقد ذهب المثبطون أدراج الرياح بثقافة الضرار وزرع الوهن في الصدور …
اليوم نرى هؤلاء الفتية الذين أمنوا بربهم ونحسبهم كذلك، نراهم يرسلون ثلاث رسائل في غاية الأهمية: الأولى للطغاة والبغاة “نرفع القرآن ونحطم الأوثان فالعزة لنا ولا عزة لكم”، والثانية للفتية الذين هم في عمرهم في فلسطين وفي كل المعمورة “ألا يتخذوا إلههم هواهم وأنهم هم الفتية جيل التحرير”، والثالثة أن “الظلم والبغي لن يطولا، وكما أن للظالم نهاية مؤكدة وخزي، فإن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء من عباده ولكن بأسبابه”.
تلك هي رسائل الفتية في فلسطين الحبيبة.. هم من يضعون قواعد الانتفاضة الشاملة، الانتفاضة على البغي والظلم والطغيان بلا حدود، وفي أي زمان ومكان.. لقد قالها هؤلاء الفتية، ذكورا وإناثا، نحن من يصنع الانتفاضة الشاملة فلا انتفاضة دون جيل الفتية، الجيل الذي تربى على أن يقول “أُفٍ” للظالم الباغي والمغتصب والقاتل والمهدر لكرامة الإنسان، ولكنها ليست “أُفٍ” عادية.. إنها “أُفٍ” لكم وما تعبدون.
بالطبع، هناك من سيعمل سرا وخَفْيًا بل كليهما، وبكل ما أوتي من قوة لؤاد وكبح هذا الجيل بكل ما أوتي من وسيلة وذميمة، ولكنهم هؤلاء المثبطون في مكرهم لا يدركون سنن الله عز وجل: (إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (سورة الأنفال الآية 30).
نقولها للعالم أجمع إنها ثورة “الأف”، لا “ثورة السكاكين”، إن “الأف” لا حدود لها.. إنها “الأُف” خرجت من ملئ أفواههم بكل قوة وعزيمة من قلوب مؤمنة بقضيتها .. تلك هي “الأُف” التي تستعر فلا يعيقها مثبط ولا واهن …
حفظ الله لنا فتية فلسطين الذين قالوا “أف” للظلم والطغاة.. حفظ الله من تربى في رحمهم هؤلاء الفتية .. حفظ الله من رعاهم .. حفظ الله لنا أقصانا وحفظ لنا من يذود عنه بأرواحهم .. تقبل الله أجرهم وجعلهم مع الشهداء والأبرار والصديقين .. اللهم أمين.