كتب عمرو حمزاوي: ظننت أن مآل الصخب الفاسد للسلطوية الجديدة في مصر هو الفشل في تزييف وعي قطاعات شعبية واسعة، والتوقف دون حملها على تجاهل المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان أو الاستخفاف بها. ثم تمنيت ألا يستمر تزييف الوعي طويلا وأن يتخلص الناس ليس من تجاهلهم المريض للمظالم والانتهاكات فقط، بل أيضا من هيستيريا تبرير الظلم وترويج العقاب الجماعي باتجاه رافضي السلطوية.
وإزاء تصاعد الهيستيريا ومحدودية ملامح انصراف مواطناتي ومواطني عنها، تقلصت أمنياتي إلى تبلور تعاطف شعبي مع ضحايا المظالم والانتهاكات ومطالبة علنية بجبر الضرر عنهم من دون تورط في معايير مزدوجة تميز بين الضحايا وفقا للهوى والهوية، وربما شيء من الاهتمام بقضايا الديمقراطية والحريات وإدراك خطر السلطوية على تماسك المجتمع والدولة الوطنية. ومع تواصل الغياب، تواصل هبوط سقف التوقعات ليستقر بالقرب من بقاء المجموعات المدافعة عن الحقوق والحريات على قيد الحياة في مواجهة التعقب الممنهج ونجاتها من التداعيات السلبية لخطاب الخوف والكراهية والتخوين والتشويه الذي ينتجه وينشره خدمة السلطان ومكارثيي الرأي الواحد.
غير أنني اليوم أجد نفسي في خانة الإقرار بسطوة المخاطر والتهديدات التي تفرضها السلطوية على بقاء المطالبين بالديمقراطية الذين يزج بهم إلى السجون وأماكن الاحتجاز أو يدفعون إلى الابتعاد عن المجال العام يأسا وخوفا مشروعا أو يضطرون إلى الرحيل من جراء التعقب والقيود. أجد نفسي في خانة الإقرار بقسوة «النجاحات المتتالية» لتزييف الوعي ولخطاب الخوف والكراهية والتخوين، حين تطول أيضا من ظننا/ تمنينا حضور حصانتهم إزاءها إن بسبب معدلات تعليم وثقافة مرتفعة، أو بفعل خبرات مهنية تمكن من البحث عن المعلومة الموثقة بشأن المظالم والانتهاكات المتراكمة ومن إدراك حقائق الظلم ومن تذكر أن الدفاع عن الحقوق والحريات لا يمثل «جرما» وأن التضامن مع الضحايا لا علاقة له بمقولات المؤامرات والمتآمرين المتوهمة والمتهافتة ـ لا تفسير آخر لدي لانشغال عدد غير محدود من الديمقراطيين في مصر بالدفاع عن «سجلهم» وبالتذكير «بمواقفهم» وبتفنيد الادعاءات الباطلة التي تحاصرهم.
لم يعد للكثير منا اللغة الواضحة التي شددت طوال السنوات الماضية على أن مصر لا خروج لها من أزمتها الراهنة إلا بالتخلص من حكم الفرد، والانتصار للديمقراطية التي تمكن المواطن من المشاركة بحرية وبدون خوف في تحديد جوهر الصالح العام وفي صناعة القرار العام والبناء السلمي للتوافق المجتمعي وتمكنه أيضا من مساءلة ومحاسبة الحكام عبر آليات الانتخابات الحرة والدورية وإجراءات تداول السلطة، وصون سيادة القانون التي تضمن المساواة بين جميع المواطنات والمواطنين وتحمي حقوقهم وحرياتهم ومبادراتهم الفردية وتنص على قواعد التقاضي العادل ومن بينها براءة المتهم حتى تثبت إدانته ومحاكمته أمام قاضيه الطبيعي.
تخلت عن الكثير منا مضامين المطالبة الصريحة بتعديل القواعد الدستورية التي تقر للمؤسسة العسكرية وضعية استثنائية تجعل منها دولة فوق الدولة وتلغي بشأنها مبادئ الشفافية والرقابة والمساءلة والمحاسبة عبر السلطات التشريعية والتنفيذية المنتخبة وتشرعن المحاكمات العسكرية للمدنيين، وبإلغاء القوانين والتعديلات القانونية صريحة السلطوية كقانون التظاهر وقانون الكيانات الإرهابية وتعديلات قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية والقضاء العسكري، وباستعادة الحرية لمن سلبت حريتهم بفعل قوانين جائرة أو أحكام جائرة أو بسبب حبس احتياطي لا نهاية له.
تضاءلت مقاومة الكثير منا لطغيان الأمني وإماتة السياسي، ولمكارثية الرأي الواحد والصوت الواحد، وللغياب الذي لم يتغير لمنظومة للعدالة الانتقالية تساءل وتحاسب المتورطين في المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان بغض النظر بدون تمييز بين رسميين وغير رسميين، ولطيور الظلام التي تبرر التوظيف غير العادل للقانون على نحو يتعقب ويقمع ويظلم معارضي حكم الفرد والضعفاء والمهمشين والفقراء وليس جموع المؤيدين والمنتفعين والسائرين في الركب، ولمتجاهلي ضرورة مراقبة ومساءلة ومحاسبة مرافق إنفاذ القانون المتحصنة باستخدام قوة الدولة الجبرية – وفي مقدمتها الأجهزة الأمنية – لجهة الالتزام بمبادئ سيادة القانون وضمانات حقوق وحريات المواطن.
تراجعت لدى الكثير منا مبدئية الدفاع عن الحق العام/ حق المجتمع في محاسبة مؤسسات وأجهزة الدولة التي تورطت في جرائم قتل ومظالم وانتهاكات في سياق فض اعتصامي رابعة والنهضة وفي سياق التعامل مع الفعل الاحتجاجي خلال السنوات الماضية، تماما كما ندعو إلى إدانة ممارسات العنف التي حدثت في الاعتصامات أو تكررت في بعض المسيرات والمظاهرات ونرفض التبرير الفاسد لحمل السلاح وللإرهاب ونطالب بمحاسبة قانونية منضبطة للمتورطين والمحرضين.
صار الصمت يلازم الكثير منا ويعجزنا عن التأكيد على كون الدولة الوطنية العادلة والقوية هي نقيض دولة حكم الفرد، هي نقيض دولة الوضعية الاستثنائية للمكون العسكري الأمني وهيمنته على إدارة الشأن العام واستتباع مؤسسات وأجهزة الدولة الأخرى على نحو يرتب انهيار أدوارها وتآكل فعاليتها، هي نقيض دولة استبعاد المواطن والمجتمع المدني والقطاع الخاص من المشاركة في إدارة الشأن العام باستقلالية وحرية، هي نقيض دولة التهديد الدائم بالعقاب والقمع والرفض الدائم لتداول السلطة بعيدا عن المكون العسكري الأمني المهيمن وعن النخب المتحالفة معه، هي نقيض دولة الظلم.
تراجعت طاقات الاحتمال والجلد لدى الكثير منا، وهي التي مكنتنا طوال السنوات الماضية من إنتاج خطاب سياسي واجتماعي يميز بين الدولة الوطنية العادلة والقوية وبين دولة الامتناع عن تداول الحقائق والمعلومات، بين هذه الدولة التي ننشدها وبين دولة الأسرار والاستعلاء على المواطن والمجتمع بتجاهل مقتضيات الشفافية والمساءلة والمحاسبة، بينها وبين دولة فرض الرأي الواحد والصوت الواحد على الناس والصناعة المستمرة للخوف لمنع المواطن دون طرح الأسئلة الضرورية عن تفاصيل القرارات والسياسات العامة وطلب المساءلة والمحاسبة الفعالة لشاغلي المناصب العامة.
هذا هو حالنا اليوم، وربما كان الاعتراف بمكوناته المؤلمة هو خطوة البداية لاستعادة حلم وأمل مصر الديمقراطية وإخراج المواطن والمجتمع والدولة الوطنية من أزمتنا الوجودية الراهنة.
(عن القدس العربي- 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2015)
1
شارك
التعليقات (1)
مجدي مغيرة
الثلاثاء، 06-10-201505:19 م
الدكتور عمرو يتحدث الآن عن الصخب الفاسد وسقف التوقعات الذي يتهاوى .... هلا ذكرت لنا في مقالك يا دكتور أنك ممن شارك في التمكين لهؤلاء ؟ ...هل تستطيع أن تذكر لنا أي مبرر مقنع - وليس لمجرد التبرير - لماذا شاركت في الانقلاب على أول ديمقراطية .....ألم تكن كتبك ومقالاتك ومحاوراتك تدعو للديمقراطية ؟ وحين جاءت بمن لاترغبون انقلبتم عليها ............أرجو أن لا تبرر ذلك بفشل الإخوان حتى لاتضيف الكذب إلى التبرير .....أمثالك يا دكتور هم أحد أوجه الكارثة في مصر ....... الكارثة التي لاندري متى سنخرج منها ، ولا ندري قدر الضحايا الذين سيسقطون حتى نخرج منها ..... والله أعلم قد لانخرج وعندها أرجو أن لايتحدث أمثالك عن الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو ما أشبه لأننا سنقرأ كلامك على أنه مجرد تسالي أو أضغاث أحلام .