قد نُبتلى في حياتنا بأناس سطحيون في فكرهم وعقلهم للأمور، فإذا كانوا أمام صغريات الأحداث ربما لا تبين رخاوة أعوادهم للعامة بشكل يفضح سطحيتهم. ولكن الطامة الكبيرة -ولن أقول الكبرى - عندما يتصدر هؤلاء الرويبضة الفضاء ويقتحمون أبوابا يُستخدمون فيها كما تُجر الشاة لمذبحها. ليت هؤلاء يبقون في القشور ويتركون اللُباب لآولي الألباب ويمكثون على سطح الماء يرسون كما يفعل غثاء السيل.
بالطبع لا يستوي اللذين يعلمون واللذين لا يعلمون، وقياسا على ذلك لا يستوي من هم أكثر علما بمن هم أقل علما. عندما كانت كوريا الجنوبية تتقدم نحو النمو والتطور كانت لا تقل عن الشقيقة والحبيبة لقلوبنا مصر العزيزة الأبية التي كانت منارة العلم والأدب في عالمنا العربي والإسلامي وفي محضنها أقدم وأعرق ثاني جامعة عالمية على وجه الإطلاق ممثلة في جامعة الأزهر الشريف الذي له دوره المنوط فيه وكما ينبغي. كيف يمكن النهوض وقد تعطلت مقاصد الشريعة الخمسه في كثير من منعطفاتها؟
هنا نجد الُلباب عند غير أولي الألباب…
لسنا ممن يتحدثون بعاطفتهم فتجعلهم يميلون كل الميل فيعلقون الأمور على غير عواهنها. في أحدث (وربما في أوسع) تصنيف عالمي للتعليم نشرت نتائجه على موقع "بي بي سي" العربي في أوائل شهر مايو 2015 - اعتمدت معاييره على تصنيف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وذلك في الرياضيات والعلوم لأعمار الطلاب عند 15 عاما ، أي نواة جيل المستقبل - تربعت سنغافوره على عرش ذلك التصنيف تلتها هونج كونج ثم كوريا الجنوبية، وكانت مصر الحبيبة خارج القائمة في التصنيف الذي ضم 76 دولة جاءت غانا في المرتبة الأخيرة والمغرب العربي الكبير في المرتبة 73. هل لنا أن نتذكر كما كتبت في مقالة سابقة أن المغرب العربي الشقيق فيه أقدم جامعة عالمية على وجه المعمورة ممثلة بجامعة القرويين.
وتزداد الهوة في سحقها عندما نصاب في أعز مؤسساتنا وهي مؤسسة "الإنسان" الذي بطبيعيته كائن اجتماعي يحتاج لحوائه وآدمه في رباط شرعي وثيق كي ينشئ أجمل مؤسسة يرأسها ويشرف على ترعرعها ألا وهي مؤسسة "الأسرة" راعيا مسؤولا عنها بالدور المنوط به وبها كي يكون خليفة الله في أرضه، فيعمر تلك الأرض له ومن حوله ومن بعده في أجيال متتالية إلى أن يأخذ الله الأرض ومن عليها.
لاشك أننا نصاب بالجلل عندما نعلم أنه في أحدث إستطلاع نشره معهد "إنتر نيشنز" في الأسبوع المنصرم مصنفا البلدان الأفضل لتأسيس أسرة وتربية أطفال؛ تربعت النمسا على المركز الأول تلتها فنلندا ثم السويد ثم الدولة اللقيطة المغتصبه المدعوة "إسرائيل". جاء الاستطلاع نتيجة سؤال الأسر عن جودة حياتهم وتكلفة تربية أطفالهم وعن أنظمتهم التعليميه. فكانت النمسا - تلك الدولة التي يدرك زائرها أنها دولة أمة تستحق أن تكون كذلك- ممن قيم أهلها واعترف بجودة وارتفاع مستوى نظامهم التعليمي وجودة الدعم التي توليه دولتهم لأسرهم.
أليس اللُباب هنا عند أولي الألباب يعرفون كيف يسوسونه ويصلحون عيوبه ويرقون به للعلى فيُحلق الإنسان عاليا؛ هو ومؤسسة أسرته وما يتبعها. بالطبع من يدرس التصنيفين وأعني التصنيف المعتمد عند منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وتصنيف معهد إنترنيشنز لأفضل البلدان لتأسيس أسرة وتربية أطفال؛ يلحظ أن هناك نمورا في قارة أسيا تنهض بالتعليم، ولكن ربما ليس في المستوى ذاته، ذلك النهوض في دول أوروبيه كالنمسا وتخصيصا كالدول الاسكندنافية مثل السويد وفنلندا.
هنا ندرك وبعد نظرة تمحيصية ومكاشفة للواقع المرير الذي نمر به أننا نعيش أزمة تربوية حقيقة في بلادنا العربيه. ولست من المتشائمين المتطيريين أبدا ولكني من مدرسة الواقعية العلميه التي تجعلني أقول أننا نحتاج لعقود من الزمن حتى نستطيع أن نحدث تغييرا نلمس نتائجه، ولكن حسب قانون صناعة الأمل (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (11 الرعد)
تعودنا في حياتنا أن نجلد ذاتنا وأن نعلق الخطأ على ظهور المسؤولين وخصوصا وزراء التربية والتعليم (فيما يخص موضوعنا هذا) اللذين في أعناقهم أحمال ربما لو أدركوا ثقلها جيدا لترددوا في حمل حقائبهم الوزاريه خوفا من يوم الحساب عند مليك مقتدر. هؤلاء الوزراء ومن يتبعهم كان الله في عونهم كيف يمكن أن يتخيلوا وقفتهم عراة غرلا في ذلك اليوم فيرون صفحات حسابهم، وقد أثقلها تحييد أجيال عن رسالته التي أناط الله بها مهمتها بأن تكون أمة الخيريه.
نعم هم في أعلى درجات المسؤوليه لكي يرتقوا بالتربية والتعليم فلا تعليم بدون تربيه ولا تعليم عال بدون تربية حينما نرى وزارة للتعليم العالي منفصلة عن وزارة التربية والتعليم .. هنا أدرك أن أسهل وأوفى تعريف للتربيه هو أن ترى سلوك من ربيته قد تغير وارتقى بقيمه الإنسانية لا إلى الحيوانية كمن يهين أستاذا في صرح أكاديمي.
لم ننته بعد ولن ننتهي…
لم ولن نعلق المسؤولية كافة على المسؤولين، أبدا واسمحوا لي أن نضرب أمثلة من حياتنا في المهجر الذي يتمتع أبناؤنا فيه بأرقى أساليب التربية والتعليم التي ليست معتمدة على الدين، فهل تركناهم ولم نُربهم على الحلال والحرام وأصول الدين وتوحيد الآلوهية والعيودية والربوبية والأسماء والصفات وحفظ القرأن وممارسة سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. بالطبع هناك تباينات بين كل فرد وابن وابنة وأسرة وأخرى.
في الغرب نحرص على لغتنا العربية الأصيله وعلى تربية أطفالنا تربية حسنة ونجدهم متميزين في أخلاقهم كثيرا ويوجد قطعا من يشذ عن ذلك. لكن يصاب أولادنا بالصدمة الكبرى عندما يعودون لأوطانهم في زيارة لأهليهم فيجدون هوة بينهم وبين جيلهم. لا بل قد يجدون الكبير من حولهم لا يقول الصدق ويلف ويدور ولا صاحب منطق يقنع جيلهم الذي تربى على مدرسة المنطق والمدرسة الإستقرائية في البحث والتنقيب الني أسسها أجدادنا من علمائنا منذ أكثر من 12 عشر قرنا.
من هنا إذا كنت من يهمك الُلباب على المستوى الشخصي فاحرص أن تكون من أولي الآلباب وخذ الجكمة ولو كانت في الصين أو النمسا وفنلندا والسويد.
لكننا نحن لسنا أولي ألباب كمثل ألباب الآخرين ولا ننتظر (مع أننا نرجوه) تغييرا من وزير ومسؤول هنا وهناك للأحسن والأفضل.
تذكر معي قول الحق سبحانه وتعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) 90 -91 آل عمران.
بكل فهم نتواضع في إدراكه أنك اذا كنت تبحث أن تكون من أُولي الألباب فيجب أن تكون في معية الله أينما كنت فتطبق أعلى وأرقى مبدأ للجودة النوعيه، لا يوجد في نظام "آيزو" ولا غيره. إنه نظام ومبدأ الإحسان، أي "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
حاسب نفسك قبل أن تحاسب من حولك وأنهض بنفسك قبل أن تُثقل الآخرين في نقدهم فلا نستهم سهما في سفينة وأخرون يستهمون وكل يظن الحق معه فنغرق ويغرقون.
حغظ الله لنا أمتنا وأصولنا وجعلنا ممن يقولون الحق فيتبعون أحسنه ويكونون في معية الله دائما وأبدا، فيكونون من أولي الآلباب.
2
شارك
التعليقات (2)
إيمان قدومي
الخميس، 03-09-201508:45 م
جزاك الله خيرًا يا دكتور، نحزن من واقعنا العربي و لكن بإذن الله و بهمة شباب واعٍ لقيمه سنكون من أولي الالباب .
د خالد مبسلط
الثلاثاء، 01-09-201510:52 م
وكالعاده دكتور تتحفنا بمقالتك الراقيه الهادفه.
هذا المقال ينبهنا الى حقاءق مؤلمه في واقعنا ويظهر تشخيص صحيح لبعض امراضنا المجتمعيه وطرق علاجها. نسال الله التوفيق.