حكاية "اللجوء" كما يرويها الطرف الآخر

هل تريد أن تعرف إلى أي حد وصل تعقيد قضية "اللاجئين" في ألمانيا؟ اجلس إذا بإزاء ألماني عادي، لا بالعنصري النازي ولا بالراهب الناسك، ألماني ناجح في عمله، مستقر في حياته، واستمع له بإنصات دون أن تحاول أن تقاطعه بآرائك العروبية "العظيمة" الجاهزة سلفا، ثم اسأل نفسك: هل كنت لأقول غير ما قال، لو كنت مثله؟

محدثي هذه المرة كان رجلا في العقد الخامس من عمره، قد غزا الشيب بعض رأسه لكن لم يوهن من حركته شيئا، رجل وقور يرتدي بذلة أنيقة خلف مكتب فخم، مدير لشركة نصائح ضريبية "Steuerberatung" كان عليّ أن أستعين بخدماته قبل عدة أيام لأنجو من ورطة تعبئة النماذج الألمانية المملة التي لا تنتهي.

في دقائق معدودة انتهى ما جئت إليه من أجله، بعض الشروحات من جهته، وبعض التواقيع من جهتي، وقبل أن أغادر ألقى أحدنا (لم أعد أذكر من منا بالضبط) كلمة "لاجئ" في معرض الأحاديث الجانبية القصيرة التي تعقب العمل الرسمي، وإذا به ينطلق متحفزا نهما ليروي لي -على امتداد أكثر من نصف ساعة- ما يعتمل في صدره من موضوع كهذا.

رواية بلسان ألماني مبين، مع مط الشفاه ومدها، ودون حركة يد واحدة (على عادة الألمان في حديثهم)، وأنا أكتفي من جهتي بهز الرأس وبعض التعقيبات هنا وهناك، مؤثرا أن أستمع له حتى النهاية، دون الحاجة لأن أفاتحه بآرائي "النيّرة" التي أثق أنه كان ليطردني من المكتب لو استمع لبعضها!

- هير عميرة (و"هير" تعني سيد)... أنا متفهم جدا ومتعاطف جدا مع أفواج اللاجئين الهاربين من الموت في سوريا وغيرها، لكن صدقني... الوضع هنا في ألمانيا أصبح مجنونا، والتصادمات العرقية والدينية على الطريق... أفواج اللاجئين بالآلاف ولا تنقطع... وهل تدري من يستفيد من ذلك كله؟ العنصريون والنازيون والبروباجاندا الإعلامية المقرفة التي يبثونها بين الناس!

- إنهم يقولون للناس: انظروا كيف يأخذ اللاجئون بلادكم منكم! انظروا كيف يعيشون على أموال ضرائبكم التي تكدون في دفعها للحكومة! إن اللاجئ بما توفره له الدولة من طعام وشراب ومسكن مجاني، ومصروف شهري دون أن يعمل، يكاد يحيا الحياة ذاتها التي يتعب من أجلها ألماني ناجح في حياته... نعم، ألماني ناجح!

- هير عميرة، صدقني أنا أعرف ما يعنيه الاضطهاد والتمييز، فجدتي "يهودية" وقد عاشت أياما سيئة بحق هنا في ألمانيا، لكن أتعلم ما قد يصنعه أن ترى بلدك قد امتلأت بآخرين لا يتكلمون حرفا واحدا من لغتك؟... إنهم لا يعلمون شيئا عنك ولا عن بلدك، والآن يقيمون فيها دون عمل حتى!... يأتون هاربين داخل باصات وشاحنات حتى يصلوا أرض ألمانيا، ثم ماذا؟ أنت أمام الأمر الواقع، عليك أولا أن تبني لهم مخيمات وتوفر لهم المأكل والمشرب والعلاج، ثم تبدأ بالتفكير في مصيرهم عندك ...

- أنا أعرف مدى تعقد الأمر عندنا نحن الألمان عندما يتعلق الأمر بالقوانين، أعرف أن كثيرا من اللاجئين مدربون ومتعلمون وبإمكانهم سد احتياجاتهم بأنفسهم لو أتيحت لهم فرصة العمل، فهناك مثلا العديد من الأطباء بينهم، بإمكانهم أن يعتنوا بحاجات ذويهم الصحية، ولكن لا... إنهم لا يعملون، ولا يُسمح لهم بالعمل، فالقانون لا يسمح... لأننا كألمان نخشى أن نشرّع شيئا دون أن نكون متأكدين بنسبة 100 بالمئة... ولكن هذا خاطئ!... بدلا من أخذهم للمساعدات، بإمكانهم أن يحصلوا على قوت يومهم بمجهودهم الشخصي، دونما إثارة لنعرات العنصريين هنا وهناك... ولكن لا، هذا لا يحدث!

- هل علمت؟... في مدينة (.... وقال اسم مدينة لم أحفظها) أزالت الحكومة مبان قديمة متهالكة يقطنها ألمان، وأقاموا بدلا منها مخيمات للاجئين... صحيح أن تلك المباني لم تكن مرخصة، لكنها كانت ملاذهم الوحيد، وهم الآن خارجها لأجل اللاجئين، والأدهى أن الحكومة لم توفر لهم البديل ولم تعطهم تعويضات عن ذلك... الحكومة لم تهتم بهم، واهتمت باللاجئين، هل تعلم أي كراهية ومشاعر سلبية يمكن أن يحدثها ذلك؟

- هير عميرة، نحن فعلا خائفون على بلادنا، خائفون أن يتسرب بين هؤلاء اللاجئين إرهابي أو متشدد، هذه ستكون كارثة! نحن هنا في ألمانيا نعيش سلاما بين كل الأديان، أنا مثلا كاثوليكي وزوجتي بروتستانتية، لا يهم! الدين حرية شخصية، ولا نريد أن يمكث معنا من يظن بأن دينه هو الأفضل على الإطلاق، ويفرض دينه على الآخرين ...

- أنا لا أقول أن على اللاجئين أن يتحولوا عن دينهم أو معتقداتهم، ولكنني أشك حقيقة في إمكانية اندماجهم بيننا، إنهم مختلفون حقا... هل تعلم، لقد كنت العام الماضي عندكم في الأردن، تحديدا في مخيم الزعتري، كنا في بعثة خيرية لتوزيع معونات الكنيسة على اللاجئين، طبعا علينا أولا أن نتأكد بأن معوناتنا ستصل لمحتاجيها حقا، لذلك زرنا المخيم... هناك اقترب مني طفل سوري، بدأ بالحديث معي أنا وزوجتي ولم نفهمه، صوته ونظراته كانت مختلفة، لا تشبه نظرات أطفالنا، لم أجد فيها براءة أو خوف الأطفال من الغرباء، ظل هكذا حتى جاء أخوه الكبير وأبعده عنا ...

-أقولها لك: أنا خائف جدا على بلدي، أنا خائف مما يحمله الغد لألمانيا ...

وامتد الحوار -كما قلت- لأكثر من نصف ساعة، آثرت فيها الاستماع، وناقشته في مواضيع قليلة، وسألته عن رأيه في أشياء أخرى كتجارة السلاح التي تبرز بها ألمانيا، وأبديت رأيي في الحل المقترح الأبسط للمسألة، والتي تمتلك ألمانيا والقوى العظمى مفاتيحه الحقيقية لإنهاء النزاع الدائر هناك، إلا أنني لم أحاول أن أبيّن له مدى اقتناعي بمسؤولية أوروبا والعالم الغربي العظمى في كل ما يجري في سوريا وغيرها (رأي سطّرته في بوست "ما قاله مركب لجوء حكيم لاح له شاطئ أشقر")، لأنني لا أظن أن تظلمات الماضي قد تعني هؤلاء كما تعنينا في كل تفصيلاتها ...

أخبرته أيضا عن معضلة "اللجوء" عندنا في الأردن، ورأيت كيف أُسقط في يده عندما علم أن بلدا يبلغ تعداد سكانها 6 ملايين نسمة تحتضن الآن أكثر من مليون ونصف من اللاجئين (أي زيادة ما يقارب 25 بالمئة من عدد سكانها خلال السنوات القليلة الماضية)، وكيف أن مخيم الزعتري الذي زاره قد بات ثالث أكبر مدينة في الأردن من ناحية تعداد السكان، وما قد يعنيه ذلك من قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجه الجميع إن لم يوجد الحل... الحل السحري... الحل الذي لا يعلم بكيفيته وموعده أحد إلا الله!