يقوم مفهوم الجندر على القول بأن الفروق القائمة بين الذكور والإناث تنهض في الأساس على معايير إجتماعية وليس بيولوجية، بمعنى أن المجتمعات هي التي تحدد الأدوار المتوقعة لكل من آدم وحواء. فمثلا دأبت المجتمعات تقليديا على أن تسند للمرأة وظائف ومهنا محددة ليس من العادة إسنادها للرجل، كرعاية الأطفال والعناية بشؤون البيت من طبخ ونفخ وتنظيف. غير أن المجتمعات المختلفة قد تعسفت في استخدام حقها في تحديد تلك الأدوار فاضطهدت المرأة وكبلتها بإجبارها على الانحصار ضمن حدود الأدوار الروتينية المقزمة التي رسمتها لها، موظفة لذلك فهما خاطئا وانتقائيا ومغرضا للنصوص الدينية. حتى الآن يمكن النظر إلى مفهوم الجندر نظرة إيجابية، إذ قد يساعد على فهم أشكال التمييز ضد المرأة ويعين على النضال من أجل منحها حقوقها المشروعة في توظيف وتطوير وإثراء قدراتها بصورة أكثر فعالية لخدمة نفسها وأسرتها ومجتمعها، بعيدا عن الصور النمطية المعرقلة والأدوار الضيقة التي ألصقت بها.
لكن المشكلة تبرز عندما شطح خيال بعض دعاة المساواة الجندرية وباتوا يطالبون بإلغاء أو تهميش الفروق بين الذكور والإناث دون مراعاة لكثير من الاعتبارات الدينية والأخلاقية والمنطقية والواقعية، والادعاء المتعسف بأنها مجرد فروق مختلقة ينبغي تحطيمها، اجتماعيا ونفسيا، وحتى بيولوجيا، وفق بعض الغلاة منهم. متجاهلين ما في دعواتهم من التعارض الصارخ مع الطبيعة البشرية والذوق السليم وتعاليم الأديان، وما يمكن أن تجره من صور الفوضى الأخلاقية واختلال المجتمعات من مختلف الجوانب، وبخاصة الديمغرافية. إذ أن شيوع التوجهات المثلية، وبخاصة في المجتمعات القليلة السكان، يمكن أن يؤدي مع الوقت إلى انقراض فعلي لها. إضافة إلى ارتباط تلك التوجهات ارتباطا جوهريا بكم وافر من الأمراض النفسية والجسدية والجرائم التي لا يمكن إنكارها، وذلك حسب دراسات علمية كثيرة يحاول أنصار تلك التوجهات التعتيم عليها أو التشكيك في صحتها.
وبحسب ما تؤكده نصوص كثيرة في القرآن الكريم، وحتى في التوراة والإنجيل، فإنه لم يهلك الكثير من الأمم السابقة إلا انحطاطها الأخلاقي وانغماسها في حمآت الرذيلة والفساد. ولا أظن أن العالم قد وصل في يوم من الأيام إلى ما وصل إليه اليوم من انحطاط أخلاقي مفزع، وبصورة معلنة مقننة يتم مهاجمة وربما تجريم من يعترض عليها. ففي مقاطعة أونتاريو الكندية مثلا، أكبر مقاطعات كندا، قررت رئيسة وزراء المقاطعة، الشاذة بالمناسبة، إجبار مدارس المقاطعة على استخدام مناهج دراسية جديدة اعتبارا من شهر سبتمبر المقبل. المناهج الجديدة ستتضمن تعليم الثقافة الجنسية وصيغ الشذوذ المحتملة للأطفال منذ صفوفهم الأولى المبكرة، طبعا ليس من باب التوعية بالمخاطر التي قد تترتب عن شيوع تلك الانحرافات، وإنما من باب نشرها وتعويد الصغار على النظر إليها كموضوعات وحقوق طبيعية لا يجوز الطعن فيها. وكما هو متوقع، ذهبت احتجاجات المؤسسات الدينية والجهات المحافظة على ذلك القرار أدراج الرياح، وأكثر ما تستطيع الأسر الرافضة للمناهج الجديدة فعله هو مطالبة المدرسة بإخراج أطفالها من الصفوف التي سيتم فيها عرض تلك البلاوي الزرقاء ومناقشتها.
ولكن يبدو أن هولندا متقدمة على كندا على صعيد نشر تلك الثقافة المنحرفة بالقوة ومعاقبة من يبدون الاعتراض على ذلك. فمنذ فترة انتهى الأمر إلى اختطاف الطبيب الفلسطيني، عدنان كلّاب، اللاجئ فيها منذ
أكثر من إحدى عشرة سنة وزجه بعد تشريد أسرته في السجن. بدأت مأساة الطبيب المسلم عندما اعترض نجله الفتى على مشاهدة فيلم إباحي في صفه كجزء من مادة الثقافة الجنسية. فما كان من معلمته إلا أن تصدم من "رجعية الطالب المسلم وتخلفه" حسب قولها، مهرولة لإعلام المدير، الذي سارع إلى استدعاء ولي أمر الطالب، الذي زاد الطين بلة كما يبدو، عندما تجرأ على المطالبة باحترام مبادئ دينه كما يحترم هو بقية الأديان. فقد فجع مدير المدرسة بموقف الأب الذي وصفه بأنه "غير سوي"، لحرمانه أطفاله من مشاهدة دروس "مهمة" لا ينبغي حرمانهم منها! المهم، يقرر الطبيب القابض على جمرة دينه ومبادئه الأخلاقية بعد سلسلة من الإهانات والاستفزازات من جانب المدرسة والشرطة أن يطلب اللجوء إلى بلجيكا ثم ألمانيا، حيث تتم الموافقة على منحه اللجوء من البلدين، الا أنه يتم إعادته في كل مرة عنوة من جانب الشرطة الهولندية من على الحدود، بحجة أنه لاجئ على أراضيها. حتى وصل الأمر إلى خطف طفلتيه وضربه هو وزوجته، ثم اعتقاله، وما تزال قضيته معلقة حتى الآن على ما أظن!
مثل هذه القصص المأساوية، وهي كثيرة وإن اختلفت التفاصيل، نخشى أنها باتت تعبر عن ظاهرة عامة وليس عن مجرد حالات فردية استثنائية، مبرزة إشكالية خطيرة تتعلق بواقع ومستقبل المسلمين في بلدان الغرب. إذ يكاد يصعب على المسلم أن يعيش حياة طبيعية في الغرب في كثير من الحالات، دون أن يكون مجبرا على تقديم شيء من التنازلات الدينية والأخلاقية، إلا تحت مظلة الانعزال ورفض الاندماج مع المجتمع. وبطبيعة الحال، فإن مشكلات أخرى ستنجم بالضرورة في حالة الانعزال، أقلها التنافر المعرفي والاضطراب النفسي والإحساس بالاغتراب، وذلك لصعوبة العيش في وسط لا يشعر المرء بالانتماء إليه أو بأنه يرحب به أو يقبله. ودع عنك الحديث عن مشكلة الحرمان من كثير من الفرص للدراسة والعمل والتقدم الوظيفي في مثل ذلك الوسط المتربص بالأجانب، الذي يتشدق ليل نهار بالحديث عن حقوق الإنسان دون توفير المناخ الكفيل جديا بحمايتها. ومن الواضح أن الإشكالية تتزايد تعقيدا وتفاقما بمرور الوقت، فالمؤشرات على كراهية المسلمين في الغرب والتوجس منهم وعدم فهمهم أو الاستعداد لاحتوائهم آخذة بالتصاعد بصورة مضطردة، تحت شعارات مختلفة أبرزها مكافحة الإرهاب والاسلاموفوبيا. ولكن أين المفر، فلم يجبر الناس على الارتماء في مرّ حواضر الغرب إلا ما هو أمرّ منه في مدائن الشرق!
نعود إلى كندا، بل وإلى المقاطعة نفسها، أونتاريو، التي صدر فيها منذ فترة قانون كارثي جديد، وإن كان يبعث على شيء من الضحك، على قاعدة: شر البلية ما يضحك. فالقانون الجديد يقوم بتجريم الأطباء النفسيين الذين يحاولون مساعدة الشواذ على الشفاء من انحرافهم والعودة إلى صفوف عباد الله الأسوياء. فمن واجب الطبيب النفسي وفق القانون العتيد، وإلا فمصيره الحبس وربما الحرمان من مزاولة المهنة، أن يساعد الشخص الشخص الشاذ، الذي لا يعتبره القانون شاذا بالطبع، على تكريس الهوية الجندرية التي اختارها لنفسه، تلك الهوية التي يزعمون أنها قابلة للتحول المستمر بلا أي ضابط. وهنا أتذكر الأيام السوداء التي قضيتها وأنا مكتئب في برنامج الماجستير في دراسات المرأة في إحدى الجامعات الكندية. فقد كان القوم هناك يناقشون مسائل تجاوزت حدود الجنون الطبيعي على أنها مسائل تدخل في باب النقاش العلمي، الويل ثم الويل والثبور لمن يتجرأ على تسفيهها! لقد كان بعضهم مثلا ينكر وجود شيء يسمى الطبيعة البشرية، فيرى أن الإنسان يستطيع ويملك الحق في تبديل هويته الجنسية كما يبدل ملابسه. فقد يقرر زيد أن يتفاعل مع عمرو كذكر، أي أن يميل سلوكه وخطابه أثناء تعامله مع هذا العمرو إلى تغليب السمات الذكورية، لكنه يستطيع أن يتصرف معه أو مع غيره في الموقف نفسه أو في موقف آخر بعد دقائق كأنثى، أو كشخص غير محدد الجنس، وذلك حسب رغبته واختياره!
أعانتني تلك المهاترات والسفاهات التي تروج باسم العلم على أن أكتشف مدى هيمنة السياسة على العلم. فالحقوق التي تم منحها للشواذ منحت في الأساس لاعتبارات سياسية ومصلحية، وليس نتيجة بحوث ودراسات علمية رصينة أثبتت أنهم أسوياء، علما بأن الشذوذ الجنسي كان يصنف حتى عقود قليلة خلت في سائر المراجع الطبية بوصفه من الاختلالات العقلية والنفسية التي تستوجب العلاج. ولكن بمجرد أن منحت السياسة الخرقاء الضوء الأخضر للشواذ، انطلقوا هم وأنصارهم ينشرون إيديولوجيتهم الحائدة عن السواء في كل الأوساط، وبخاصة الأكاديمية والإعلامية والفنية، ويتعاملون مع تلك الإيديولوجيا المتهافتة كما لو كانت حقائق علمية لا تقبل النقاش أو الجدل. والواقع إن القوانين اليوم في عالم الغرب تدعمهم إلى حد كبير، فمجرد انتقاد أحدهم أو الإيحاء بموقف سلبي من شذوذه قد يفضي بالمنتقد إلى السجن، بتهمة التمييز والقدح والذم!
المؤسف أن تلك الانحرافات الفكرية لم تظل حبيسة في أراضي الغرب، بل أسهمت عربات العولمة، غير مشكورة، في نقلها، وبكثافة خانقة إلى وطننا العربي، المثقل أساسا بالمشكلات والأزمات. والمتتبع للأخبار يلاحظ أن هناك حربا حقيقية يشنها الشواذ في الآونة الأخيرة لفرض وجودهم وشرعنته. إذ سمعنا مؤخرا عن ترخيص جمعية للمثليين في تونس، مع زعم أحد إدارييها بأن (%40) من أبناء تونس هم من أعضاء هذه الفئة! كما سمعنا خبرا مشابها من الأردن، الذي شهدت أرضه خسفا إلهيا مرعبا لتحذير البشر من تكرار أفعال قوم لوط، حيث اجتمع في عمان مؤخرا رهط من المثليين بحضور السفيرة الأمريكية "الفاضلة" لمناقشة سبل دعم أعضاء هذه الفئة وإيجاد كيان يمثلهم بصفة رسمية. وكان أحد الشواذ قد زعم لمحطة أردنية أن أمثاله يشكلون ما لا يقل عن (%10) من سكان البلد!
لا شك أن "الربيع العربي" برفعه لسقف حريات التعبير في البلدان العربية قد أسهم في تجرؤ الشواذ على الإعلان عن أنفسهم بكثير من التحدي، بعد أن كانوا يتوارون عموما في الظلام. لكن الأنظمة العربية هي المسؤولة الأولى عن تفشي تلك المعضلة. فالأنظمة العربية تستمد القوة لوجودها ليس من صناديق الانتخاب أو من رضى مواطنيها عنها، بل من مدى تبعيتها للأنظمة الغربية المهيمنة واجتهادها في إظهار الحرص على السير في ركابها، سياسيا وفكريا. لذلك يمكن فهم أسباب غض طرف تلك الأنظمة عن جهود تعميم المفاهيم والقيم الغربية المتهتكة في بلدانها، بل وإسهامها المباشر في دعم تلك الجهود. فمثلا، في معظم البلدان العربية تنفق أموال طائلة، أمريكية وأوروبية، لتنفيذ مشاريع إشاعة ثقافة المساواة الجندرية، حسب الفهم الغربي للمفهوم، تحت رعاية أعلى مستويات صنع القرار في الدولة.
المقلق أكثر في ما أزعم، بحسب خبرتي المتواضعة، أن الكثيرين من المتورطين في الاشتغال على مثل تلك المشاريع لا يدركون أبعادها ومخاطرها فيما يبدو، فهم يتعاملون مع المفهوم بسذاجة وسطحية، وكأنه لا يعني أكثر من دعم المرأة، دون أن يحيطوا أو يعنوا بالإحاطة بما يكتنفه من خلفيات، تتعارض بالضرورة مع ما يؤمنون به من قيم دينية وأخلاقية، ودون أن يعرفوا كيف يمكن أقلمة المفهوم وتشذيبه لينسجم وحسب مع ثوابتنا الدينية والأخلاقية. فمفهوم الجندر، بالمعنى الغربي الذي تنفق الجهات الغربية مليارات الدولارات لترويجه وفرضه، يتضمن بالضرورة القول بالحرية الجنسية المنفلتة، وحرية الشذوذ وحرية التحول الجنسي المنفلت. فإذا كانت الأنظمة والحكومات العربية تعي ذلك فتلك مصيبة، وإذا كانت لا تعيه فالمصيبة أعظم.
مؤسسات المجتمع المدني في البلدان العربية تسهم إسهاما بليغا في دعم ذلك المفهوم المريب، إما لأن القائمين عليها هم من المستغربين الذين انحرفت بوصلتهم فباتوا يؤمنون بأن تقدم المجتمعات العربية مرهون بأن تتبنى قيم نظيرتها الغربية وأن تتبعها شبرا بشبر وذراعا بذراع، وإما لإنهم من السماسرة الذين
لا يعنيهم في واقع الأمر إلا تلقي أكبر قدر ممكن من التمويل، حتى وإن كان ذلك يعني تلقي التمويل من الشيطان نفسه والعمل على تنفيذ إملاءاته! وفي هذا السياق لا يحسن نسيان دور بعض الأعمال الدرامية في الترويج لثقافة الانحراف الجنسي، فقد شهدت السنوات الأخيرة عرض العديد من المسلسلات والأفلام العربية التي تتعاطف مع الشواذ وتدعو إلى تقبل انحرافهم كأمر طبيعي ينبغي التعايش معه، بل والترحيب به.
في ضوء الاختلال الفاضح في موازين القوى بين الشرق والغرب وبخاصة من الناحية المادية والعسكرية، فإن التحرر من الهيمنة الغربية ونوال الاستقلال الحقيقي يستوجب كخطوة أولى التحرر من هيمنته الفكرية. وهذا يستلزم إخضاع المفاهيم التي يحاول الغرب فرضها علينا، غالبا بالابتزاز عن طريق التحكم في الدعم المادي والمساعدات، لأدوات التحليل والنقد والمراجعة والتعديل والتطوير، بما يتلاءم مع هويتنا العربية الإسلامية. وإلا فإنه ليس من المستبعد أن يستيقظ واحدنا يوما ليكتشف بأن طفله أو طفلته قد انضما إلى جموع الشواذ، الذين نجدهم، ولا ادري هل هذا بمحض الصدفة، يحضرون بكثافة بين صفوف عبدة الشيطان، ولم يعد بإمكانه فعل شيء إلا لوم نفسه على سماحه لنفسه ولهم بارتداء عدسات غريبة غربية الصنع واللون!
1
شارك
التعليقات (1)
محمد نجفي
الجمعة، 09-07-202105:20 م
أحسنت كثيراً في تناولك هذا الموضوع الخطير كما أحسن التنبيه على جوانب الأسباب والعلاج والحلول.