الصحافي الأمريكي، الوسيم، الذي يعرف العربية، العامل بجريدة "الواشنطن بوست"، كان قد جاء في مهمة خاصة، من تركيا التي يعمل بها مراسلاً لجريدته الشهيرة، من أجل تغطية خبر أول جريدة ساخرة في سورية اسمها الدومري. رأت إدارة جريدته أن ظهور هذا الكائن، الدومري، آدم الليل الوحيد، في صحراء البعث الوارفة، يقتضي تغطية صحافية في مكان ولادته، وليس عن بعد، فجاء مندوبها مبهوراً بولادة جريدة ساخرة بعد أربعين سنة من إعلام الإسمنت والخشب في صحيفتها الوحيدة، والتي لها ثلاث أسماء مستعارة، هي: البعث، تشرين، الثورة. أمضى رئيسنا المسكين عمره الرئاسي، أي مدة ثلاثة وثلاثين سنة، هي عمر المسيح عليه السلام، وهو يعمل مصلوباً في القصر الجمهوري في مهنة الأشغال الشاقة وهي: استقبل وودع. ومعناها: ظلم، دعس، قتل، شبح، خان..
ومذهولاً بالسماح للدومري بإشعال النور في قناديل ليل البعث المظلم، ومجده المخلد، سألني هل يمكن أن تقدم لي ملخصاً لسياسة هذه البلاد، ورأيك فيما يجري؟
هنا أريد أن أبوح بسر للقارئ، فقد كنت شاهداً على حوار جرى بينه وبين صحافي يعمل في جريدة رسمية، وفي الدومري، وهذا يشبه أن يجمع الزوج بين ضرتين؛ تقية، بنت حلال، وأخرى راقصة بنت شبيح، في بيت من غرفة واحدة ويعدل بينهما! كرر له فيها الصحافي الشيوعي أنّ سورية ليس فيها سوى مشاكل اقتصادية طارئة، وهذا علمياً غير صحيح ،فالدولة عربة تجرها خيول عدة، إذا كبا حصان، كبت معه الأخرى. وكرر الصحافي الذي أدمن نيكوتين النفاق، أنّها بألف خير. بعد الحوار لم أتحمل قناطير الكذب التي أمطرها الصحافي السوري، الذي جمع ضرتين من طائفتين في فراش واحد، فقلت للصحافي الأميركي، بعد أن انفردت به: هل تعلم أن شقيق هذا الصحافي بقي مسجوناً بتهمة سياسية ثلاثة عشر عاماً، ولم يخرج سوى أمس! وهو خائف أن يلحق به، لذلك هو يغني هذه الأغنية الوطنية؟
هنا صفّر الصحافي الأمريكي صفارة دهشة من مقام النهاوند.
كان يمكن أن أفعل مثل أي "مواطن شريد" يظهر في التلفزيون، وأقول لهذا الضيف: إنها بلاد عظيمة يقود شعبها العظيم رئيس لم تلد الأرحام مثله. والبلاد تعيش في تبات ونبات. نقاوم في النهار في الخنادق، ونتوسد في الليل البنادق، وأنّ بلادنا مهما ساءت، ونهب مسئولوها وخانوا فهي أفضل من بلادك، بلاد الشيطان الأكبر، وأنّ النسبة 99 بالمائة التي يفوز بها الرئيس هي أشرف من نسبة الرئيس الأمريكي البائسة، فهو دليل نجاح، ومؤشر حب من قبل الشعب الذي وقع في حب زعيمه، من أول دعسة، مثلها مثل معدل النجاح في المدارس، ورئيسنا مجتهد، و"إن تنكح تنجح" . أنتم تبدلون الرؤساء، وبلدنا المعطاء يبدل الشعب، وجلده وعقائده... وما إلى ذلك من هذه الأسطوانة الحلزونية المحرشفة .. وأنّنا نحمد الرئيس كلما اتصلت عين بنظر وأذن بخبر، وأنه منحة إلهية جاءت في الوقت المناسب، كما هو مكتوب على الجدران. وأنّه الأصلح لقيادة البلاد، وأنّ بلادكم فيها نسبة كذا من المشردين، أما بلادنا فترفل في نعيم "البونات" والمنح الرئاسية ...
...لكني اغتمنت الفرصة، وخنت وطني، وقلت وأنا أكاد أمسك بتلابيبه: انظر يا صاحبي.. هذه بلاد، الخير فيها يعني ضده، الانقلاب يقلب البلاد والشعب وأخلاقه والمعاني قلباً. إذا كنت قرأت حكايات عن بلاد سحرية أو بلاد أسطورية أو بلاد مضحكة، كل شيء بالمقلوب في هذه البلاد المعطاء لعصابة النظام:
على سبيل المثال: المقاومة والممانعة تعني مقاومة الشعب..
شعارات البعث "العملاق"؛ وحدة، حرية، اشتراكية: تعني تفرقة، عبودية، استغلالية، وإن شئت فهي تعني الوحدة والعزلة. الحرية هي أكل البطاطا مع الخبز، أو الخبز مع البطاطا، والاشتراكية تعني الاشتراك في تنشق الهواء الملوث بالهتافات، أو الاشتراك بالتصفيق للفاسدين.
مكافحة الفساد، تعني السهر عليه وتدبير الخوازيق للمناضلين والشرفاء، أو السكوت عنه.
مكافحة الإرهاب تعني مكافحة الصلاح بالحديد والجزمة..
الوحدة الوطنية تعني إشاعة العصبية والقبلية والطائفية..
العز والمجد والفخار تعني الذل و الهوان والخنوع..
بطل إنتاج يعني أن البطل حرامي غالباً. ذو اليد البيضاء تعني ذو اليد الطويلة السوداء، بطل الحرب والسلام تعني بطل الحرب مع الشعب، والسلام مع العدو..
هناك معانِ صحيحة، لكن لابد من تعديل دلالتها: مثل تسمية القائد الرمز، فهي تعني القائد الرمز للفاسدين والمجرمين، بطل الأمة العربية تعني بطل الأمة الأعجمية، أو عدو الأمة العربية، مظاهرة عفوية تعني مسيرة مقادة بالترهيب والقسر، العروبة وهي لسان ارتبط بقيم مثل النخوة والشهامة والمروءة، لا تعني شيئا سوى التستر بقيمه..
إغاثة لملهوف هي قتله أو سجنه في الظلام، والمروءة هي مروءة الدفاع عن جماهيرية نجمة أو ممثل أوفنان ضد فنان آخر .... أما قيم الحاكمة في هذه البلاد فهي الوشاية، الغدر، الخيانة، النهب..الوطن؛ إقامة جبرية، البعث؛ وأد، الإعلام؛ تجهيل، الدين للشيطان والوطن للعصابة، الانتخاب هو استفتاء، وعرس لعريس واحد، ومأتم لبقية الشعب، يختار فيه الرئيس شعبه بنزاهة النزهاء!
جملة " أنا ما بخاف غير من الله" التي قد تسمعها تعني أن صاحبها "الشجاع" يريد أن ينتقد رئيس نقابته، ويعتبر نفسه عنترة بن شداد العبسي!
الانتصار يعني: أنّ الرئيس هزم الشعب، وأنّ المنصب بخير.
أهم شيء في "الديمقراطية الدكتاتورية" أن التوقعات لا تصيب أبداً، فالدومري الذي توقعت أن ينجب أبناء منورين يشعلون القناديل في شوارع سوريا، في عصر الاتصالات ؛هرب بنفسه، وقنديله، ومصابيحه قبل أن يحرقوه.
لم تتسع البلاد لدومريين اثنين: دومري النور، ودومري النار.