تخرج بين الحين والآخر تسريبات -أكثر من كونها مؤشرات- على بداية وجود انفراجة للأزمة الحالية بمصر، ليس آخرها ما خرج من أحد أبرز المقربين للنظام الحاكم بالإمارات عن وجود مبادرة إماراتية قطرية، وأهميتها تنبع من تغير موقف الإمارات المتصلب ضد الربيع العربي ككل، وضد الإخوان بشكل خاص، وسبقها التحول الملحوظ في الموقف السعودي، بعد تولي الملك سلمان الحكم.
ما لا يمكن إغفاله في هذا السياق رسالة الأستاذ يوسف ندا، وهي الرسالة التي لا تزال غير مفهومة، إلا أنها تلفت الانتباه لصدورها من شخص معروف باتزانه الفكري وتحركاته تصدر برَوِيَّة، ثم هناك الحركة الدؤوبة التي يقوم بها الشيخ راشد الغنوشي، في زياراته الدولية والإقليمية، والتي تعكس في حقيقتها مدى حمل هذا الرجل لهمّ صوْن الدماء من المعارك العبثية وحرصه على تماسك وترابط لحمة مجتمعات الأمة، وآخرها زيارته للجزائر التي دعا فيها الرئيس بوتفليقة للتدخل لمنع النظام المصري من تنفيذ الإعدامات.
يرى الكثيرون أن لا إمكانية للتصالح بعد الدماء التي سالت في ذلك الصراع، ولذا أصبح التساؤل: هل من الممكن أن تحدث مصالحة بعد كل هذا؟ والتساؤل بصيغته يحمل خطأ تاريخيا عن الإمكانية؛ إذ إن وقائع الصراعات الداخلية على مر التاريخ، انتهت بإنهاء حالة الاقتتال أو الاختلاف الحاد بين الأطراف، خاصة في ظل تقارب القوى، أو كون أحد أجزاء الصراع يدور في فلك الفِكْر، أو وجود تأييد شعبي كبير للطرفين، فيتجرع البعض السم لأجل الحفاظ على ما بقي من وطن، تلك المغالطة في التساؤل تحتاج لتصحيح، فيصير السؤال: متى ستحدث؟ مع ما يستلزمه ذلك التساؤل من أمور أخرى تحتاج للاستفهام.
الذي يعني جمهور الأطراف المتنازعة، معرفة ما الذي سيتم التصالح حوله وشكل التنازلات المقدمة والمكاسب المحصلة نتيجة تلك العملية، والخطاب العام يصور أن الفكرة بحد ذاتها مرفوضة وتمثل خيانة، لكن المسؤول بحق هو الذي يدرك أن واجبه يحتّم عليه أمريْن: أحدهما أن يسعى للقصاص، والثاني أنه مسؤول عن عصمة دم أنصاره الذين بالشارع ويدعمونه، وقضية عصمة الدم -على جلالتها- غائبة في ظل خطاب يسْتَعِر ويتغذى به، وهي من أعظم ملفات ومكاسب حل الأزمة.
في تقدير الفقير، أن إنهاء الأزمة سيحدث لا ريب، لكن الإشكال في حجم التضحيات التي ستبذل للوصول إلى تلك اللحظة، فبعد ماذا سنصل إليها، وهل يحتاج الأمر حقا لكل تلك الدماء ليتم استيعاب الحاجة إلى التهدئة والحفاظ على ما بقي من وطن ومجتمع تمزقت أحشاؤه من انقسام في أصله سياسي؟
اليوم يقدم الجميع التضحيات ولكن بمستويات متفاوتة، فقيادات التيار الإسلامي بشكل خاص كلها في السجن أو مطاردة، وتدهور فكر النظام للقتل كما فعل بأكتوبر، ولا تخفى عمليات القتل والتصفية للمعتقلين، إما داخل مقار الاحتجاز والسجون، أو أثناء القبض عليهم، وبالمقابل فإن السيسي أصبح هو الآخر مطاردا ومحاصرا داخليا مع وجود مؤشرات دولية، وهو لا يتحرك إلا بحراسة مشددة حتى لو كان في وسط ثكنة عسكرية وبين ضباط وجنود معلوم أنهم لا يحملون أي تسليح بوجوده كما أظهرت زيارته الأخيرة لسيناء، وقتل نائبه العام في أكبر عملية اغتيال لشخصية رسمية ومن قبله محاولة اغتيال وزير داخليته وشريكه السابق محمد إبراهيم، بخلاف عمليات اغتيال الضباط وأفراد الداخلية والجيش، وحالة الهلع التي يعيشها الجميع وهم لا يعلمون متى ستتم مهاجمتهم من خصومهم، سواء كانوا ضباطا أو مطاردين.
التساؤل الآخر من سيقوم بها؟ وهل يمكن لمن أوغلوا في الخصومة أن يجلسوا على طاولة واحدة، وهل يمكن لمن كانوا جزءا من الإشكال أن يكونوا جزءا من الحل؟
في الصورة العامة أطراف الإشكال لا يشكّلون حلا، لكن الأزمة ههنا لها خصوصية أن أطراف الأزمة لا بد وأن يكونوا بداية الحل على الأقل، ففي ظل تمسك الجميع برموزهم، والشعور بحجم تضحياتهم عن الأنصار، تحتاج الأزمة لموافقة الرموز على بدئها ثم يتم بعد ذلك تقرير من سيتم استبعاده من المشهد العام بعد الحل، ويترك لصفوف أخرى قيادة باقي المشهد.
يبقى تساؤلان: أولهما عن كيفية تسويق الحل بعد حالة الحشد الحادة التي قامت بها الأطراف؟ وهو إشكال حقيقي، لكن تجاوزه بمنطق "داوني بالتي كانت هي الداء" هو أنجع الطرق لحل إشكاله، فالحشد قام على الترويع والدماء، والحل يقوم على الدعوة لعصمتها ووقف نزيفها، وتأمين المروّعين.
الثاني وهو الأهم على الإطلاق: ما المطلوب للبدء في ذلك الاتجاه؟ أغلب الظن أن التيار المتضرر بشكل أكبر سيكون أكثر قابلية للبدء في ظل معطيات مقبولة، لكن الإشكال في طرف السلطة العنجهية الممسكة بالسلاح والقوة، والتحرك معها للقبول بالبدء متعلق بمدى التحرك الوطني الذي قد تقوم به النخب الوطنية، دون إغفال أن النظم الاستبدادية تحتاج لضغط دولي من حلفائها، وهو ما قد يكون الأفضل حظا في تسريع وتيرة العملية، فالتحرك باتجاه إحداث انفراجة حقيقية للأزمة بمصر يفتقر لوعي دولي بخطورة الوضع القائم على الجميع، يستتبعه تحرك للضغط على السلطة لإيجاد الانفراجة.
قد يستقر في نفوس الكثيرين أن الحديث عن حل للأزمة ليس سوى ضرب من ضروب الترف الفكري، أو العبث، وربما خيانة الدماء كما هو المعتاد في الأزمات، لكننا نفتقر دوما لوجود التصورات بناء على المعطيات الراهنة، حتى نفاجأ بتغير كبير دون وجود رؤية سابقة لإدارته، ولا يزعم الفقير أنه وضع رؤية، بل مجرد لفت الانتباه لضرورتها، ليقومَ بها أهلها، عسى أن يكون في المسطور نفع يُبنى عليه.
تلك ليست دعوة لمصالحة على أشلاء الضحايا كما قد يفتري البعض، بل هي دعوة لعصمة دماء أبناء وطن امتاز أهله بالسماحة وتغيرت طباعهم لأحط التقلبات البشرية، وهي دعوة لعصمة دماء ستراق هدرا للوصول إلى نتيجة حتمية، يراها البعض بعيدة، ورجاؤنا من العليّ أن تكون قريبة.