في حقيقة الأمر لا أفقه كثيرا في السياسة النشطة واليومية، لا أعلم كيف تدار الأحزاب السياسية، ولا أدري ما هي الخصائص المعيّنة التي يجب أن تتميز بها الحملات الانتخابية لتقنع الناخب، ولكن أستطيع تقييم أيديولوجية وبرامج وخطابات وإجراءات
الحكومة أو الأحزاب السياسية من ناحية ليبرالية وديموقراطية، وأود في هذا الإطار أن أشير إلى أخطاء وتناقضات ونجاحات وإخفاقات حزب
العدالة والتنمية.
أولا سأتحدث عن النجاحات والأمور الصحيحة، وبعد ذلك سأتكلم عن الأخطاء والتناقضات.
أريد أن أبين حقيقة من خلال التأكيد على المثل التركي القائل، " اقتل الشجاع، ولكن أعطه حقه" إنه كتقييم عام، فإن التجربة الديمقراطية التركية تُنتهَك في ظل حكم الحزب الواحد، وهذا ما رأيناه في أربعينيات القرن الماضي بوضوح، ولكن في ظل حكم حزب العدالة والتنمية المستوى الديمقراطي بشكل نسبي كان جيدا جدا على جميع المستويات، وكما قال المفكر التركي إيتيان محجوبيان "السقف الديمقراطي ارتفع بشكل ملحوظ خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية".
كرجل لا يؤمن بالتغيير الفوري، بل يؤمن بالتغيير التدريجي، أقول بأن البيروقراطية كانت بجميع جوانبها مسيطرة على الدولة، وكانت الأحزاب السياسية البرلمانية مجرد "شكل" لا يسمن ولا يغني من جوع من ناحية تنفيذية، ولكن عندما أتى حزب العدالة والتنمية رفع البيروقراطية المتغلغلة في الدولة بكل عظمتها، العدالة والتنمية وضع جميع سنواته في تحدي هذه الوصاية البيروقراطية {المدنية والعسكرية} والتخلص منها.
يجب علينا ألا ننسى نجاح حزب العدالة والتنمية الكبير في التخلّص من هذه الوصاية التي كانت تمنع العملية الديمقراطية من السير بصحة وسلامة، ولا ننسى أنه تم فتح دعوة من قبل هذه الوصاية وأنصارها عام 2008 للتخلّص من حزب العدالة والتنمية الذي منح الشعب الديمقراطية الواسعة، ولكن براعة الحزب وحرصه على نشر الديمقراطية جعلته يستمر واقفا على أرجله ويكمل مشواره الديمقراطي.
وبعد تخلص حزب العدالة والتنمية من الوصاية البيروقراطية المدنية والعسكرية بدأت الوصاية "الحقوقية" المتغلغلة داخل السلطة القضائية، بإجراء مؤامرات سريّة ضده لإغلاقه، ولكنه مرة أخرى قاوم ونجح في دحر هذه الوصاية، ليحرر القضاء من الدكتاتورية والبيروقراطية "العفنة" ويُرسي مبادئ الديمقراطية داخل مجتمعنا التركي.
لكن، للأسف، في ظل حكم العدالة والتنمية جاءت حركة القضاء على البيروقراطية "القضائية" متأخرة، مع أن الحزب كان يعلم جيدا بأن "الكيان الموازي" يُدخل أعضاءه بشكل متعمد في الجهاز القضائي للسيطرة عليه، وكان حزب العدالة والتنمية لا يحرّك ساكنا اتجاههم لدعمهم السياسي له، هذا يعد تناقضا وإخفاقا يسجل لصالح حزب العدالة والتنمية. ولكن الآن بعدما استطاع حزب العدالة والتنمية القضاء على "الكيان الموازي"، وإن تأخر بعض الشيء"، أصبحت مبادئ الديمقراطية راسخة داخل السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية.
قبل أن يأتي حزب العدالة والتنمية للحكم، كانت هناك بعض المواضيع الحساسة و"القومية" التي لا يمكن لأي شخص أن ينتقدها، مثل انتقاد العسكر أو انتقاد مصطفى أتاتورك، ولكن اليوم بكل أريحية يمكننا انتقاد ومناقشة جميع المواضيع دون أي استثناء، هذا يسجّل كنجاح عظيم لحزب العدالة والتنمية في إرسائه لمبدأ حرية التعبير الديمقراطي.
الإعلام كان ذا واجهة واحدة وصوت واحد، الآن أصبح بإمكاننا رؤية عدة قنوات تلفزيونية تحمل عدة أفكار وآراء متعددة سياسيا واجتماعيا، وهذه النقطة أيضا تسجل رصيدا لحزب العدالة والتنمية في إرسائه لمبدأ حرية الإعلام.
لو لاحظنا في الانتخابات الأخيرة، حوالي ثلثي القنوات الإعلامية كانت معارضة للحكومة، ولكن لم يتم مس أي منهم، وعمل جميعهم بكل حرية وديمقراطية. ولكن مازال هناك الكثير من المواضيع التي يجب إنجازها في مجال حرية الرأي، مثل ضمان الحريات عن طريق الدستور ونشر الوعي بين الشعب عن موضوع حرية الرأي والكثير من الأمور التي يجب إنجازها، ولكن المنظور العام لحرية الرأي في
تركيا مقارنة بالدول المجاورة لها أكثر إيجابية.
البعض يدّعي بأن أردوغان وحزبه كانوا ديمقراطيين لغاية عام 2011، ولكن بعد هذا العام تغيروا، هذا غير ممكن أبدا من ناحية المبدأ، لا يمكن أبدا للأشخاص أو المؤسّسات أن تتغيّر في يوم وليلة ويتخلّوا عن هويّاتهم التي نموا على أساسها.
حزب العدالة والتنمية حتى بعد انتخابات 2011 استمر في عملية الإصلاح الديمقراطي، لنذكر بعض الخطوات التي تم خطوها في هذا الإطار؛ تم تغيير المادة 35 من قانون العمل الحكومي، التي كانت تقضي بمنع الحجاب داخل المؤسّسات العامة للدولة، تم إلغاء "النشيد الفاشي"، صدر قانون يقضي بإمكانية تعلم اللغة الأم للأقوام الأخرى بعدما كان الأمر شبه مستحيل، صدر قانون يعطي الحرية لكل شخص بتسمية نفسه كما يشاء دون التقيد بأي شرط، سُمح بالدعاية السياسية بعدة لغات بعدما كانت باللغة التركية فقط، حتى أصبح بإمكان المحاميات ووكيلات النيابة مزاولة قضاياهم بالحجاب، من ناحية الحرية الدينية عمل حزب العدالة والتنمية على إصلاح الكثير من دور العبادة، التابعة للديانات الأخرى، بعدما كانت قد تركت وأُهملت.
لا ننسى بأن الكثير من جنرالات
الجيش التي انقلبت على الديمقراطية في الثمانينات والتسعينات قُبض عليها وحُكمت محاكمة عادلة، الكثير من الصحفيين، المحكوم عليهم جورا بسبب نقدهم لجنرال أو رجل أعمال كبير أو ما شابه، أُعفي عنها وأطلق صراحهم.
هناك الكثير من النجاحات التي حققها حزب العدالة والتنمية لدولتنا ولديمقراطيتنا، ولا أرى أن هناك الكثير من الإخفاقات سوى إخفاقه في إرساء مبدأ تكافؤ الفرص في الجهاز القضائي، قد يكون غفلة أو سهو والأمر وارد، ولكن انتباهه في الفترة الأخيرة للأمر والعمل على إصلاحه جعله يتخلّص من إخفاقه في فترة سنوات حكمه الأخيرة.