بورتريه

بورتريه: أوغلو.. مبتكر سياسة "صفر مشاكل مع دول الجوار"

داوود أوغلو
داوود أوغلو
يؤمن بأن النجاح على الساحة الدولية يجب أن يستند إلى قوة مستمدة من سياسة داخلية ناجحة..

يعتبر من القلائل الذين استطاعوا الجمع بين سيرة أكاديمية جامعية وتجربة سياسية ناجحة تقريبا.

تتلخص نظريته في السياسة الخارجية في مزج المبادئ بالبراغماتية، أي تبني خيارات مبدئية صحيحة دون أن يؤثر ذلك على السعي لتحقيق المصلحة العليا للبلاد، أي التوازن بين السياسة الخارجية القائمة على المبادئ وتحقيق المصالح الوطنية بشكل ذكي.

ينظر إليه على أنه واحدا من أهم الساسة الأتراك في العصر الحديث، ويحسب له ابتكار خط جديد في السياسة الخارجية التركية نجح من خلاله في إعادة بلاده لمكانتها الطبيعية كلاعب رئيس في المنطقة والعالم. 

ويعتبره المراقبون طرازا فريدا من الساسة، فعمل على دفع تركيا إلى مناصرة قضايا المنطقة العربية والإسلامية.

إلا أنه ورغم النجاحات المتعددة التي حققها في سياسة تركيا الخارجية فإن هناك قدرا من الانتقادات وجهت له أيضا، منها توسعه المفرط الذي أدى إلى خلل في الحسابات في عدد من القضايا التي تدخلت فيها تركيا.

وكان انخراط تركيا في بعض الملفات محل انتقاد المراقبين لعدم توافقها مع نهج أوغلو القائل بدمج المحافظة على المبادئ والمصالح في آن واحد.

عرف أحمد داود أوغلو، المولود في مدينة قونيا بتركيا في شباط/ فبراير 1959، كشخصية أكاديمية بحتة. 

فهو خريج قسم العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة "بوغاز إيتشي" دفعة عام 1984.

وحصل على درجة الماجستير من قسم الإدارة العامة في جامعة "بوغاز إيتشي" ونال درجة الدكتوراه، من قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في نفس الجامعة. 

عين في عام 1990 أستاذا مساعدا في "الجامعة الدولية الإسلامية" في ماليزيا، حيث أسس قسم العلوم السياسية وترأس هذا القسم لغاية عام 1993.

وفي الفترة ما بين عامي 1995 و1999 أصبح عضوا في الهيئة التدريسية في قسم العلاقات الدولية في جامعة "مرمرة" التركية.

وعمل في الفترة ما بين 1998 و2002  كمحاضر زائر في الأكاديمية العسكرية والأكاديميات الحربية التابعة للقوات المسلحة. 

بدأت مسيرته السياسية عام 2002 كمستشار لرئيس الوزراء، وسرعان ما لوحظت بصماته بوضوح على محاور مهمة من السياسة الخارجية لبلاده، حيث قدم خطا سياسيا جديدا يدعو لاستيعاب الوضع الإقليمي الجديد في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وترسيخ مفهوم استقلالية القرار التركي من دون الحاجة إلى الولايات المتحدة كما كان الحال أيام الحرب الباردة.

وبدا ذلك بوضوح حين تسلم عام 2009 حقيبة الخارجية، وطبق مبدأه الذي ابتكره والمعروف اصطلاحا باسم "صفر مشاكل مع دول الجوار"، واستطاع بفضل ذلك التوجه لحل الكثير من المشاكل المتعلقة بالسياسة الخارجية التركية، كما أنه وصل إلى حلول مرضية مع أكراد بلاده الذين يقودون تمردا ضد الدولة منذ ثمانينيات القرن الماضي .

وتحسب له قيادة ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، واستطاع التوصل إلى حلول مع الجيش الذي تمتع بسطوة على المشهد السياسي التركي منذ انهيار الدولة العثمانية في الربع الأول من القرن العشرين. وهي أولى مبادئ الديمقراطية التي تطالب بها "معايير كوبنهاغن"، المعايير التي وضعها الاتحاد الأوروبي لقبول أي دولة عضوا فيه.

وتوجت مسيرته السياسية الناجحة على مدى السنين الماضية باختياره رئيسا لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم، وتكليفه برئاسة الوزراء في آب/ أغسطس 2014.

ولعبت تركيا باستمرار دورا طليعيا في تحدي حصار "إسرائيل" لقطاع غزة، وإنهاء سياسة العقاب الجماعي لسكان القطاع ومساعدتهم على الخروج من محنتهم. 

أما البعد الأكثر شهرة لسياسات أوغلو فهو اغتنامه لفرص التواصل مع العالم العربي والمنطقة، ونجح في الانخراط في موجة التوسع وازدهار الاستثمار والتغيرات الثقافية في المنطقة.

ورحب أوغلو بأحداث ما عرف بـ"الربيع العربي" ضد التسلط، وأشاد خصوصا بما حدث في مصر عام 2011 وإزاحة نظام حسني مبارك بوسائل سلمية، إلا أن الأحداث تسارعت على نحو مدمر  في ليبيا وسوريا واليمن، وأثبتت بوضوح أن الانتقال السلمي والسلس للسلطة ليس هو الخيار الوحيد المتاح.
 
وأصبحت سوريا العقدة الكبرى، خاصة أنها كانت من أولى الدول التي طبقت معها سياسة "صفر مشاكل"، إلا أن هذا الخيار لم يعد ممكنا بعد أن قام النظام السوري بارتكاب الفظائع، الواحدة تلو الأخرى. وأوضح أوغلو أن النظام الذي يقوم بقتل مواطنيه بالجملة لا يمكن أن تتهادن تركيا معه، وأنها ستصطف مع الشعب وليس مع الحكومة التي فقدت شرعيتها نتيجة لأفعالها. 

وبالأفكار نفسها، قدمت تركيا مباركتها لتدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، بعد أن بدا نظام معمر القذافي منخرطا في نهج يقرب من نهج الإبادة الجماعية لوأد الثورة التي قامت ضده.

أما في ما يتعلق بمصر، فقد رفضت تركيا مباركة الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال عبدالفتاح السيسي ضد الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي.

وتجلى نجاح نظريات أوغلو في عدة بقاع من العالم، مثل البلقان وشبه جزيرة القرم وأرمينيا وميانمار وأمريكا اللاتينية والصومال والعراق. 

ورغم هذا الكم من النجاحات التي تحسب لداود أوغلو، فإن له إخفاقات أيضا، فهو اضطلع بملفات ليس لها حصر، وتمددت نشاطاته أكثر من اللازم، أو على الأقل حدت من قدرته على إدارتها بنجاح، وقد يكون هذا هو السبب في حدوث عدد من الإخفاقات نتيجة الخطوات غير المحسوبة. 

ويعتبر الكاتب الأمريكي والأستاذ الجامعي في كلية الحقوق بجامعة برينستون الأمريكية، ريتشارد فالك، أن أوغلو كان وزيرا متميزا للخارجية بشكل عام، وكرئيس وزراء لتركيا تقريبا، ففكرة صنع القرار السياسي ممزوجا بالتزامه بمبادئه كإنسان وكشخصية أكاديمية، يجعل منه طرازا نادرا من الساسة.

وكان تبوؤ أحمد داود أوغلو منصب رئيس الوزراء في تركيا تتويجا لصعوده السياسي، في حين يعد الصعود السياسي لشخص آت من خلفية أكاديمية ومنخرط في الحياة التعليمية بعمق كأستاذ جامعي، أمرا غير مألوف بحد ذاته، وغير مسبوق، ليس في تركيا فحسب بل في العالم أجمع.
التعليقات (0)