كتاب عربي 21

عبارة يعقوبيان

نزيه الأحدب
1300x600
1300x600
ليس دفاعاً عن بولا يعقوبيان، لكن تحوُّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه المحاكم في غياب القضاة والقضية والمتهم والضحية، يخالف قيم العدالة التي لأجلها اعترض المعترضون على غلطة الإعلامية "الشاطرة"، عندما سئلت في برنامج تلفزيوني ساخر عن مفاضلتها بين الرئيس التركي والرئيس السوري، ففضلت بشار الأسد على رجب طيب أردوغان. 

شاهدت الفيديو المقتطع من المقابلة أربع مرات وخرجت بالانطباعات التالية:
أولاً: لقد مارس مقدم البرنامج على ضيفته "بولا" ضغط الأسئلة السريعة والمكثفة مع مقاطعات متكررة، للحصول على جواب "مخطوف" بكلمة واحدة على طريقة نعم أو لا، دون السماح لها في كثير من الأحيان بالتقاط أنفاس أجوبتها، رغم اعتراضها على أسلوبه وتنبيهها له بأنه لا يدعها تتكلم وتجيب.

ثانياً: لقد شعرتُ بأن إجابة يعقوبيان الفورية جاءت لإسكات أو إفحام السائل الذي يريد إما إحراجها مع شريحة كبيرة من الناس، وإما وضعها في مواجهة طائفتها وأصلها العرقي، وإظهارها بأنها تبيع عشيرتها براتب تلفزيون المستقبل التابع لتيار المستقبل ذي الجمهور المسلم السني، المتبني بأغلبيته للرواية التركية التي تتناقض مع الرواية الأرمنية حول ما يعرف بقضية مجازر الإبادة، فأجابت بما أجابت انتصاراً لكرامتها الشخصية والنوستالجيا الأرمنية، وليس لإيمانها بالضرورة بعدالة السؤال أو الجواب.

ثالثاً: استدركت بولا يعقوبيان إثر موجة تصفيق جمهور الاستوديو، التي تنطلق عادة عند إشارة مدير المسرح بأمر من مخرج الحلقة أو منتجها، فوجهت كلاماً لا يختلف عن قناعاتها السياسية المعروفة.

رابعاً: أصر مقدم البرنامج على الاستغراق في لعبة الإحراج، وقال لها بأن أرمن سوريا يؤيدون الرئيس الأسد ونظامه ضمن علاقة تحالف صادق، فما كان منها إلا أن سخّفت هذا الكلام وعارضت اصطفاف الأرمن، ودَعتهم للوقوف على الحياد، أي ترك الأسد الذي وصفته بولا بالمذهبي والطائفي، مضيفةً أن الكل في سوريا يتاجر بالناس وبالدم. وغمزت من قناة حزب الله عندما أسفت على طريقتها لزج شباب في حرب سوريا، ومنهم من يعود إلى أهله بصناديق الموت. 

بالإضافة إلى انطباعاتي كمشاهد وكمتخصص في التدريب على التعامل مع وسائل الإعلام في الاتجاهين، سائلاً ومسؤولاً، لا بد قبل الحكم على بولا يعقوبيان من إدراك الأمور التالية:
أولاً: قلة نادرة في العالم هم الذين يخرجون عن مسلمات أقوامهم العقائدية والثقافية، خصوصاً تلك المتصلة بروايات المظالم المثقلة بدماء الأجداد، والزميلة يعقوبيان ليست من تلك القلة فهي تتبنى الرواية الأرمنية، التي تقول بارتكاب تركيا  مجازر إبادة بحق الأرمن على أساس عرقي غير طائفي، تماماً مثل الأغلبية المعاكسة التي تتبنى الرواية التركية النافية لارتكاب المجازر.

ثانياً: إن المتهم الرئيسي في "مجازر الإبادة" بحسب الرواية الأرمنية هو حزب الاتحاد والترقي التركي، المتهم أيضاً بالانقلاب على السلطنة العثمانية وتبديل حكمها الإسلامي بحكم علماني صرف، قيّد حرية العبادة لدى المسلمين. لكن الدعوة والدعاية الأرمنية لم تميز بين حكومة تركية وأخرى من حيث الامتداد العقائدي والأصول الفكرية، بل اعتبرت الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته الحالية ورثة طبيعيين للدم، وهذا ما تبنته أيضاً الإعلامية الأرمنية عندما عبرت عن رفضها المطلق للرئيس أردوغان حتى في سياق اعترافها بخطأ تفضيل الرئيس بشار الأسد عليه، فهي قالت بأنه "لا يجب تفضيل مجرم على مجرم"، رغم معرفتها الأكيدة بأن أردوغان ليس مجرماً وقد وصل إلى قصر رئاسة أنقرة بصندوق الاقتراع، وليس عبر طريق معبدة بالجماجم، على الطريقة العربية المعاصرة، لكن بولا ككل أبناء جيلها من الأرمن، ما زالت أسيرة رواية المجازر التي نشأت عليها، وصلّت لضحاياها على مدى أعوامها التسعة والثلاثين، والتي تحمّل العرق التركي قاطبةً وتتابعاً مسؤولية أحداث الرواية ووجوب الاعتراف بها والاعتذار عليها.

ثالثاً: اعتبار بعض المغردين موقف يعقوبيان حقداً على المسلمين ليس فيه أي وجه حق أو منطق، فليس في سيرة بولا يعقوبيان أي منحى طائفي أو مذهبي، وهي المتزوجة مدنياً من الإعلامي الشيعي العلماني المعروف موفق حرب، وهي التي رفضت عروض عمل في محطات تلفزيونية "مسيحية"، وآثرت البقاء في تلفزيون المستقبل رغم تراجع نسب مشاهديه في كل قوائم الاستطلاعات.

رابعاً: وخلاصة القول، إذا كانت بولا يعقوبيان تخالف سياسة الحاضر الأرمني القائمة على الانضواء ضمن حلف الأقليات في المنطقة، فهذا بحد ذاته صفاء عقل ونفس يجب ألا يُنكَر لها، ولا تطلبوا منها أن تخالف تاريخ الأرمن برمته.

أخطأَت واعترفت، برّرت ولم توفَّق كثيراً في التبرير، لكن بولا لم تولد الأسبوع الماضي، فلديها تاريخ من العمل المهني الاحترافي والموقف السياسي المناصر للمظلومين. تجاوزوا زلّتها، امحوها من ذاكرتكم ولا تحولوها إلى "عِبارة يعقوبيان".
التعليقات (0)