بدأت الحكاية بطرق هادئ على باب غرفتي في الفندق الذي أقيم فيه على أطراف مدينة لندن بالقرب من مطار هيثرو، تقدمت لفتح الباب معتقدا أن الطارق أحد أفراد خدمة الغرف في الفندق لكن بدا أن الأمر أكبر من ذلك بكثير.
شخص يرتدي ملابس مدنية يرفع كارنيه يؤكد أنه ضابط في الشرطة البريطانية ومن خلفه 3 جنود يرتدون الملابس العسكرية الكاملة، دخل الضابط وأحد الجنود إلى الغرفة وقال إنه يريد أن يتحدث معي قليلا، فيما بقي جنديان آخران خارج الغرفة.
حسنا، ربما يكون الأمر إجراء روتيني وفحص أمني لنزلاء الفندق خاصة من ينتمي منهم إلى منطقتنا العربية المنكوبة، لكن بمجرد أن بدأ الضابط في الحديث اتضح أن الأمر يتجاوز كثيرا فكرة الفحص الروتيني، وبعد عدة دقائق عرفت التهمة الموجهة إليّ: "الانتماء لتنظيم داعش"!
تعمد الضابط إظهار مسدسه ثم قال لي إن هناك بخلاف الجنديين الواقفين خارج الغرفة عدة جنود يقفون خلف الشباك بخلاف سيارة الشرطة المتمركزة في مدخل الفندق، كان يستعرض قوته أمامي حتى لا أفكر في الهرب أو المقاومة، ابتسمت ابتسامة غير المستوعب لما يجري، وهززت رأسي بالإيجاب، ثم بدأ الضابط في الحديث.
"تلقت الشرطة بلاغا من طاقم الطائرة التي جئت على متنها إلى لندن بالعثور على ورقة مكتوب عليها عنوان في تركيا وعبارات مؤيدة لتنظيم داعش، وبالمراجعة تبين أن المقعد الذي وُجدت الورقة أسفله هو مقعدك، واستغرق الأمر ثلاثة أيام حتى نعرف مقر إقامتك في لندن".
"لكن هذه الورقة لا تخصني، بالتأكيد هناك خطأ" قلتها محاولا إنهاء الأمر مبكرا بإثبات أنني لست صاحب الورقة التي يتحدثون عنها أصلا، ومن ثم فهم يتحدثون مع الشخص الخطأ، لكن الضابط تجاهل مداخلتي تلك وبدأ في توجيه الأسئلة وكأنه لم يسمع شيئا:
• لماذا جئت إلى لندن؟
- في مهمة عمل ولزيارة عدد من المؤسسات الإعلامية
• ما الدليل على ما تقوله؟
- يمكنك أن تكلم أحد المنظمين من خلال هاتفي وهم سيشرحون لك
• أريد أوراقا
- لا أملك أوراقا. مهلا. معي ورقة تثبت زيارتي لمقر "BBC" بالأمس (أستعد للقيام من على الكرسي لإحضار الورقة)
• (يضع يديه على ركبتي) لا تتحرك من مكانك. قل فقط أين هي
- في هذه الحقيبة
(تحرك الجندي الذي يظهر سلاحا في جانبه وفي الجانب الآخر تتدلى الكلابشات ويبحث في الحقيبة حتى يعثر على الورقة ويسلمها للضابط)
• وماذا كنت تفعل في BBC؟
- أنا صحفي وأزور المؤسسات الإعلامية لزيادة خبراتي
• هل معك دليل على أنك تمارس الصحافة في مصر
- مكتوب في جواز السفر
• أين هو؟
(أخبرت الجندي بمكانه بنفس الطريقة فأحضره وسلمه للضابط، تفحصه جيدا)
• هل معك إثبات آخر؟
- كارنية نقابة الصحفيين المصريين. لكنه مكتوب باللغة العربية
(نظر في الكلام المكتوب بالإنجليزية خلف الكارنيه والذي يطلب من السلطات المختصة تسهيل مهمة حامله ثم طرح سؤالا لم أفهمه فطلبت منه التبسيط، طرحه بطريقة أخرى لكنني أيضا لم أفهم ولم أكن أريد أن أجيب عن شيء لا أفهمه فربما أضع نفسي في ورطة)
• إذا كنت لا تفهم حديثي جيدا يمكن أن نذهب إلى مركز الشرطة وهناك مترجم عربية يمكن أن يساعدك.
- أوك. لنذهب
(حاول تبسيط المعنى مجددا وكأنه لم يقل شيئا بشأن الانتقال إلى مركز الشرطة، ففهمت أنه كان يريد فقط أن يريد رد فعلي وما إذا كنت سأقلق من فكرة الذهاب إلى المركز أم لا. بعد التبسيط فهمت أنه يريد أن يعرف ما هذا العنوان التركي المكتوب في الورقة)
- لا أعرف فأنا أؤكد لك أن الورقة لا تخصني لكنك لا تصدق
• ولماذا تجيب عن الأسئلة إذن؟
- لأنني أتفهم عملك وأريد أن أساعدك
• ما رأيك في تنظيم داعش؟
(هززت رأسي مبتسما دون أن أجيب)
• لماذا تبتسم؟
- هل يمكن أن أقول إنني أحب تنظيم يقتل الناس مثلا؟
• يعني لا تنوي السفر إلى تركيا
- (مبتسما) ممكن ازورها بعد كدة بس كسائح
• ومنها إلى سوريا؟
- لا
• لماذا أنت هادئ؟
- لأني لم أفعل شيئا يجعلني خائفا.
• التدريب الجيد يجعلك هادئ أيضا
- ههههههه ممكن
• ما رأيك في بريطانيا؟
- مجرد بلد زي مصر
• وماذا ستكتب عنها بعد عودتك إلى مصر؟
- لن أكتب عنها أصلا. أنا هنا في مهمة عمل وعندما أنتهي منها سأعود إلى مصر وينتهي الأمر.
أصبح الحوار بعدها ألطف كثيرا وودودا إلى حد كبير. انتهى الجندي من تفتيش أغراضي وأعاد كل شيء إلى وضعه، اعتذر الضابط لي وطلب مني أن أتفهم عمله وألا تترك هذه التجربة عندي أي مشاعر سلبية تجاه بريطانيا، ثم هم بالانصراف وقمت لتوصيله إلى الباب وقبل أن يغادر قال لي: ربما تكون المعلومات التي كتبتها في الورقة ستستخدمها في موضوع صحفي أو شيء من هذا القبيل؟
ساءني أنه مازال مقتنعا أن الورقة تخصني وطلبت منه أن أراها وأنا يقارنها بأي ورقة أخرى تحمل خطي ليتأكد أنها ليست لي، لكنه قال أنه ليس من حقي أن أرى الورقة وأن الأمر انتهي على أي حال وتمني لي إقامة طيبة في لندن واصطحب الجنديين اللذين كانا واقفين أمام الغرفة وغادر تاركا أحد مسؤولي الفندق ينظر إلي نظرات يملأها الفضول.
***
التجربة في ظاهرها صعبة ومربكة وسيئة لكنني خرجت منها بدروس كثيرة أهمها أن كونك متهما في دولة مثل بريطانيا أفضل من أن تكون بريئا في دولة مثل مصر.
التهمة ليست سهلة. الشرطة أمام شخص تشك في انتمائه لتنظيم داعش ورغم ذلك لم توجه إليه أي إهانة ولو لفظية، ولم تتصرف بطريقة تشعر نزلاء الفندق بأن هناك شخص متهم بالإرهاب في إحدى حجراته، فقط اتخذت احتياطاتها كاملة وأخضعت هذا الشخص لتحقيق وفحص دقيقين وعندما تأكدت أنه لا يمثل خطرا انتهى الأمر.
هنا في مصر كونك متهما في حد ذاته دليل إدانة يعطي السلطات الحق في أن تقتلك، كريم حمدي الذي قتل تحت التعذيب في قسم المطرية كان متهما أيضا، وكل من ماتوا في أقسام الشرطة مجرد متهمين، الرجل الذي قتله أمين الشرطة بسبع رصاصات كان متهما، الذي قتلته الشرطة في كرداسة كان متهما، خالد سعيد وسيد بلال كانا متهمين، والعشرات الذين قتلوا داخل سيارة الترحيلات كانوا متهمين.
فوارق كبيرة بين دولة تحترم حقوق الإنسان، ودولة لا تعترف أصلا بشيء اسمه "إنسان"، ولذلك ستبقى بريطانيا بريطانيا، وستبقى مصر كما هي حتى يدرك من يحكموها أنهم ليسوا وكلاء "عزرائيل" على الأرض!.
8
شارك
التعليقات (8)
مصرية وأفتخر
الأحد، 12-04-201508:39 م
طيب خليك في بريطانيا وبلاش ترجع مصرتبقى ريحت وارتحت
محمد عادل
السبت، 11-04-201501:24 م
برغم اتفاقي معك في ان حقوق الانسان مهدره في مصر .... و لكن لا اتفق معك ان الوضع بهذه الحلاوه و اللطافه في بريطانيا او اوروبا و خصوصا بالنسبه للعرب ...
Abdelhamid Abdo
الجمعة، 10-04-201503:11 م
المقارنة أصلا حرم هههههههههههههههههه
جمال فهيم
الجمعة، 10-04-201512:54 م
الحمد لله علي السلامة واقول لك وللكل صاحب ضمير اثبت مكانك هنا عنوانك الخوف بيخاف منك وضميرك عمره ما خانك
ابو احمد
الجمعة، 10-04-201510:55 ص
مقالاتك أتعبت القارئ بسبب هذه الدوائر الحمراء ازيلوها وشكراً .