قضايا وآراء

دهليز الغاية

محمد مراح
1300x600
1300x600
إذا تبنينا أطروحة مالك بن نبي رحمه الله تعالى، في كتابه المنشور أخيرا بعد نحو ستين عاما من كتابته (وجهة العالم الإسلامي ج2: المسألة اليهودية )، الأطروحة التي تضمنها تحليله التاريخي والفكري، من أن الحضارة الأوربية الحديثة، حضارة وظيفية من قبل اليهود. 

يسمح لنا هذا المفهوم بمحاولة إضاءة عتمة دهليز توجيه ما يجرى في عالمنا الإسلامي و ما يحدث باسم الإسلام، عسى أن نبصر الغاية من كل هذا .

- على المستوى العقائدي الديني، يمثل الإسلام حالة تمدد عقائدي هائلة في العالم، رغم الواقع المرير البائس لأمته. وكثير من المؤشرات التي استوثق منها الدارسون الغربيون، تجمع على أنه في طريقه ليصبح العقيدة الأولى عالميا. 

- على مستوى مخزون الأرض من ثرواتها، يختزن العالم الإسلامي أوفر قدر من ثروة العالم الخام. 

- على مستوى القيم الإنسانية: يمتلك العالم الإسلامي قيما إنسانية رفيعة، قابلة للتفعيل المثمر بيسر وبساطة. بعض هذه القيم لا زال يحفظ على العالم الإسلامي وجوده، ومقاومته لأوضاعه المزرية بالمعيار الحضاري .

- على مستوى الثروة البشرية: يمتلك العالم الإسلامي قوة بشرية عددية هائلة، ترجح فيها كفة الأعمار الشابة كفة الأعمار المُسنّة. كما يمثل الذكاء لديهم ميزة ملحوظة، تجلت في إبداعاتهم لحين توفر المناخ المناسب للإبداع والابتكار. 

وفي مقابل هذه الميزات، استهلكت الحضارة الغربية كثيرا من ثرواتها الطبيعية (القليلة أصلا خصوصا في شقها الأوروبي)، وأخذت قبضتها تتراخى عن ثروات مستعمراتها القديمة، من ناحية بسبب مشكلاتها الداخلية النابعة من أخطائها الحضارية الكثيرة، وأبرزها ظاهرة ازدواجية معاييرها، حين تخرج من محيطها الحضاري إلى محيطات أخرى تعتقد أنها أدنى منها إنسانية تحديدا، فهذا أخطر أمراضها كما نعلم؛ لارتباطه بأهم مبدأ قام عليه الوجود وهو العدل. ومن ناحية أخرى، خفت تلك القبضة، لما أخذت قوى أخرى في النمو والظهور المنافس على الحضور القوي.
 
حبن نسحب هذه المعطيات إلى حيز (الحضارة الوظيفية)، قد تساعدنا على فهم الحالة النفسية والمزاجية التي يبدو أنها تطبع النواة الصلبة اليهودية التي رافقت نشوء هذه الحضارة، وأدت أدوارا أساسية كبرى في رسم كبرى معالمها، وتوجيه أدائها، و ترسيخ قيمها، ثم مخطط تنفيذها العبقري .

الحالة المزاجية ستكون قطعا ـ إذا سلمت تلك الملاحظات ـ وجزها لنا وصف (الاضطراب)، الذي يفسر سببه منطقُ طبيعة نتائج الجهد البشري الذي يعجز عن أن يحل محل الأقدار يقينا، وكذا طاقته المحدودة كي يظل على الدوام المؤثر الأوسع والأعمق في قعل حضاري في مستوى قوة وعنفوان الحضارة الغربية المعاصرة. 

لذا نستطيع فهم محاولات انتشار تلك النواة من خلال مؤسساتها العملاقة متعددة الجنسيات عبر القارات، والاقتصادات القوية الناشئة التي تزاحم الاقتصادات الكبرى، كي تضمن صب فوائد خيراتها في صناديقها وحساباتها.
 
لكن الطبع المكين في نفوس أصحاب تلك النواة عبر عشرات القرون، يحول دون الاطمئنان لهذه المحاولات؛ إذ الموازنات الحضارية تتجاوز تلك الفوائد المادية المتذبذبة، إلى قيم وعقائد، وسنن في الحياة والكون، ومبادئ تصنع وتوجه حركة الإنسان والحياة.

وهذا كله صار موضع مساءلات نقدية قوية في مركز النشوء، و تدرج نحو تخوم الفطرة أحيانا، خصوصا إذا طرأت على سطح أحداث الحياة ما يخدش الغشاوات التي تصلبت بفعل أعتى أداة معاصرة وهي  (الإعلام). ولك أن تجمع شوارد الأحداث الآتية مثلا: (تحطم الطائرة الماليزية بطريقة غامضة غير مسبوقة في سياق سلسلة من سقوط طائراتها المتوالي- بروز حركات العنف باسم الإسلام وتغول بعضها بشكل فجائي - المآلات المأساوية التي آل إليها ما سمي الحرب على الإرهاب- مأساة العراق، المأساة التي ترتسم في سوريا وقريبا منها ليبيا- الحرب الأخيرة على غزة - الهجوم الأخير على جريدة العربدة بأعراض الديانات والأنبياء والمقدسات- الأزمة المالية العالمية - انخفاض أسعار النفط- حركات العنف المذهبي التي تجتاح العالم الإسلامي- الطغيان الصهيوني السافر وغطرسته واحتقار كل الأعراف والمواثيق والقرارات، والمبادئ الطبيعية البشرية.

مع شعور الإنسان الغربي بالرعب لو فكر في مقاربة مسلمات كفكرة السامية والهولوكوست، وغيرها من الأمثلة).
 
سيكون حتما لهذه الشوارد حين تمر تباعا على نفسية الإنسان المعاصر المتمدن وعقله، أثرها المحقق على تنبيهه إلى مصيره الخاص ضمن مصير الإنسان على هذه الأرض. و استباقا لهذا المآل يقود الاضطراب وما يصحبه من خوف تلك القوة العاتية التي تكونت عبر عشرات السنين لاستباقه، بما نفاجأ به دون مقدمات من وقائع تخلف من الغموض، أكثر مما تسمح بتوليد الأسئلة، نظرا لهول الصدمات وتتابعها. 

أعتقد أننا - بهذا - اقتربنا من تبيّن غاية الدهليز ولو في حالتها العامة. فماذا بقي علينا نحن المسلمين - خصوصا- القيام به؟ 

من المسلم به أن الوجود البشري سيظل على تنوعه مستمرا إلى يوم الحق والدين، وسنة التدافع ستبقى محافظة على حضورها القوي البين في مساره أيضا، ورسالتنا الأصيلة في الوجود التي بسببها تشكَّل كياننا العقائدي الذي تولدت عنه شخصية هذه الأمة الإسلامية وجسمها، هي بعث قيم الفطرة الإنسانية التي أخرجتها شريعة الإسلام إلى مبادئ وقيم وسلوك. وسنة التغلب يحددها في كثير من مناحيها طبيعة المستوى الحضاري الذي انتهت إليه البشرية، ضمن هذا المحيط من المعطيات، فإن مدافعة شر القوة الصلبة التي أنهكت قيم الإنسان إنسانيته، لا مناص لنا من بلوغها إلا عبر سنة الاستمكان العلمي والفكري والحضاري في هذا الوجود، عبر محاولات جبارة قاسية متينة دؤوبة مصممة، في استنبات المعرفة في أرض قيمنا وعقيدتنا، والتمكن من معرفة العصر بأعمق ما يمكن بلوغه.

وبالطبع المادة الخام لكل هذا عقولنا الذهبية التي لم تُستثمر بعد في هذا المنبت الخصب. ثم ما متعنا الله تعالى به من نعمه وخيراته في أرض الإسلام. 

حينئذ نستوى على جودي القوة والمنعة، فنملك أن يُسمع لنا إذا قلنا كفوا عن عقيدتنا ونبينا وقيمنا، وتنفرج الساحة لقوى الخير والحق، وتشح سبل الغواية والتيه أمام من يروم لها أسبابا.

والله يقول الحق ويهدى السبيل.
التعليقات (0)