دفعت وكالة
الاستخبارات الأمريكية للمحللين النفسيين جيمس ميتشل وبروس جيسين، أكثر من 80 مليون دولار أمريكي. ويعيش كل منهما في بيوت باذخة، فيما كلفت البربرية التي قاما بتصميمها الولايات المتحدة الكثير.
ويقول مايكل دالي من موقع "ديلي بيست"، "سمها البيوت التي بناها
التعذيب، بيتان واسعان باذخان اشتراهما المتعهدان النفسيان، غداة التقرير الشاجب، الذي صدر عن الكونغرس".
ويضيف الكاتب أن ميتشل وجيسين "لم يكونا أول أمريكيين يطبقان أسلوب الإيهام بالغرق، وغيرها من أساليب
التحقيق (المطورة) ضد أعدائنا، ولكنهما بالتأكيد هما من كسب المال جراء ذلك"، مبيناً أنهما "قاما بهذا من خلال تطبيق علم مرفوض قائم على (الفودو/ الشعوذة)، مبني على مبادئ مضللة لتطبيق برنامج يظهر سجل "سي آي إيه" أنه لم يقدم إلا القليل، هذا إن كانت هناك معلومات أمنية ذات قيمة". ولكنهما أصبحا ثريين.
ويشير الموقع إلى أن
تقرير الكونغرس، الذي أعدته لجنة الاستخبارات، يقول إنهما حصلا في عام 2006 على عقد قيمته 180 مليون دولار، تدفع لهما على مدى ثلاثة أعوام، ولكن الثنائي حصل في النهاية على 81 مليون دولار أمريكي، وكان لديهما مال كثير لبناء منازل جديدة، وفوق ما كانوا يتصورونه في خيالاتهم المستحيلة.
ويبين التقرير أن ميتشل أقام بيتاً في فلوريدا، وبحسب السجلات فهو بيت قرب البحر، يغطي ستة أعشار فدان، وقيمته 880.000 دولار، وتبلغ مساحة غرفه ومتلعقاته 4.233 قدماً مربعاً. وفيه أربعة حمامات، وثلاثة مواقف للسيارات، ومسبح وغرفه مكيفة وممر من الخشب يقود لبحيرة.
ويصف الكاتب بيت جيسين في واشنطن، ويبين أنه يقع في منطقة مساحتها 15 فداناً، وقيمته 1.599.900 دولار، ومساحة البيت حسب السجلات، 6.916 قدماً مربعاً، ويحتوي على ست غرف نوم، وثمانية حمامات، وتظهر صورة فضائية للبيت كأنه منتجع. وقال ميتشل وجيسين "نحن فخوران بما قدمناه من خدمات لبلدنا".
ويشير تقرير الكونغرس إلى أن "سي آي إيه" دفعت مليون دولار إضافية للشركة التي أقامها الثنائي لحمايتهما، وللموظفين العاملين معهما من الملاحقة القانونية التي تنتج عن برنامج التعذيب، بحسب الموقع.
تاريخ التعذيب
ويقارن دالي وضع المحللين النفسيين بالضباط الذين استخدموا أسلوب الإيهام بالغرق ضد المتمردين في الفلبين بداية القرن العشرين، الذين تمت ملاحقتهم، وتمت تبرئة معظمهم من التهم الموجهة إليهم أمام محاكم عسكرية، وجدت أن الأسلوب مبرر في تلك الظروف، مع أن الرئيس تيودور روزفلت كان واضحاً في موقفه من تبرئة ساحة الجنرال إدوين هيكمان بقوله "لا أوافق".
ويورد التقرير أنه في رسالة خاصة كتب روزفلت أن الفلبينيين استخدموا أسلوب "المعالجة بالماء"، الذي يترك أضراراً دائمة على السجين، ولكنه قال: "التعذيب أمر لا نتسامح معه".
ويلفت الكاتب إلى أنه في حالة تعود لفترة الفلبين، توفي راهب بعد تعريضه لأسلوب الإيهام بالغرق ثلاث مرات، ولكن قضيته لم تذهب للمحكمة مع أن القاضي الجنرال جورج ديفيس قال، إنها تمثل "قتلاً جنائياً".
وكتب ديفيس "إن اللجوء للتعذيب، من أجل الحصول على معلومات من سجين الحرب، يعد خرقاً لقوانين الحرب، وبناء عليه من يقوم به يقدم للمحاكمة".
ويستدرك الموقع بأن وزارة العدل رفضت تقديم الضابط واسمه براونويل، الذي ارتكب التعذيب، للمحاكمة. وفي قضية أخرى تمت إدانة ضابط أمريكي، وهو الكابتن إدوين غلين، الذي اتهم بالقسوة في الفلبين بداية القرن الماضي، وفرضت على الضابط غرامة 50 دولاراً، ويقال إنه ظل في سلك العسكرية وترفع لرتبة جنرال.
ويفيد دالي أنه عندما تعرض الأمريكيون لأسلوب الإيهام بالغرق أثناء الحرب العالمية الثانية على يد اليابانيين، كان موقف الولايات المتحدة أشد، فقد حكم على ضابط ياباني بالسجن لمدة 15 عاماً. وجاء في حيثيات الحكم أن الضابط "قام عمداً ودون وجه حق بإساءة معاملة وتعذيب أسير أمريكي، وضربه وركله، وربطه على حمالة وسكب الماء في أنفه".
في التاريخ القانوني لحالات استخدام الماء في التعذيب ومواقف المحاكم الأمريكية منها، يذكر إيفان والاتش شهادة الكابتن الأمريكي تيس نيلسون وجاء فيها:
سؤال: هل هددك المحقق بأية وسائل أخرى أثناء التحقيق معك؟ الجواب: نعم، لقد مورست علي عدة أنواع من التعذيب، منها ما يطلقون عليه العلاج بالماء.
سؤال: ما هي ردة فعل حواسك عندما صبوا الماء عليك، ماذا شعرت من الناحية الجسدية؟
جواب: شعرت بطريقة أو بأخرى أنني سأغرق، مثل المعلق بين الحياة والموت.
ويذكر التقرير أن والاتش يلاحظ أن التعذيب بالماء استخدم أفي ثناء الحرب الكورية، حيث ينقل ما قاله العميد في سلاح الجو ويليام هاريسون لصحيفة "نيويورك تايمز" عام 1953 "كانوا يحنون ظهري، ويضعون منشفة على وجهي، ويسكبون الماء فوق المنشفة، لم يكن باستطاعتي التنفس، وعندما كنت أفقد الوعي كانوا يهزونني، وبعدها يبدأون من جديد".
دليل النجاة
ويتابع دالي أنه من هنا قام الجيش الأمريكي بعمليات تحضير للجنود، ضمن ما عرف ببرنامج "النجاة، المراوغة المقاومة الهرب". وقد أعد البرنامج وفكر به العقيد جيمس "نيك" رو، الذي كان نفسه أسيراً أثناء حرب فيتنام. ومن خلال هذا البرنامج تم بناء معسكرات للعدو وتبادل أدوار بين المدربين ومن يتدربون. وتم نقاش ما يمكن أن يتعرضوا له من تعذيب وقسوة على يد العدو، الذي لا يحترم ميثاق جنيف. وقامت وحدات الجيش الأمريكي كلها بإنشاء فرع للتدريب على وسائل المقاومة والنجاة عند الوقوع في يد العدو.
ويذكر التقرير أن جيسين وميتشل كانا يعملان في سلاح الجو الأمريكي، ويدربان الطيارين على هذا البرنامج. وكانت رسالة الدكتوراة التي تقدم بها ميتشل تدور حول موضوع "الطعام والتمرينات وضغط الدم"، أما رسالة الدكتوراة التي تقدم بها جيسين فقد كانت حول "النمذجة العائلية"، التي يقوم فيها المريض بنحت شخصيات تمثل أقارب له. وعلى ما يبدو لم تكن لأي منهما أي تجربة في التحقيق أو التدريب. وفي نهاية عام 2001 تقاعد كلاهما برتبة عقيد، ولدى كل واحد منهما خطط لدعم تقاعدهما المتواضع بالتعاقدات الخاصة. وبعد شهر على تقاعدهما من سلاح الجو، حدثت الهجمات، وقاما بإقناع وكالة الاستخبارات المصعوقة بأنهما الشخصان المناسبان للدور.
أفكار جربت على الكلاب
ويبين الكاتب أنه عندما قامت السلطات البريطانية بمداهمة بيت شخص يشتبه بعلاقته مع تنظيم القاعدة، قامت بمصادرة ما وصف بأنه "دليل القاعدة"، الذي احتوى على بعض النصائح حول كيفية مواجهة التحقيق ومقاومة المحقق. ولهذا قام ميتشل وجيسين بإعادة "هندسة" دليل الجيش الأمريكي، ولكن الأمريكي هو المحقق، والإرهابي هو الذي يحقق معه. وكانت العقبة أمام اقتراح الثنائي هي أن أسلوب التعذيب عادة يستخدم لكسر إرادة المعتقل، واستخراج اعترافات خاطئة، وليس الحصول على معلومات صحيحة يمكن بناء فعل عليها.
ويتناول التقرير مناقشة جيسين وميتشل لفكرة أن "أساليب التحقيق المطورة" يمكن استخدامها لإيصال السجين لحالة من "العجز المكتسب"، وبعدها يتم التحقيق معه. لكن "سي آي إيه" لم تشغل نفسها بطرح سؤال حول ما يعنيه هذا المصطلح. فقد تم التوصل إليه عبر تجارب على الكلاب في الستينيات من القرن الماضي بجامعة بنسلفانيا، وهي أبحاث كانت تستقرئ حدود الضغط الإنساني. وضم فريق الباحثين الدكتور مارتن سيلغمان، الذي كان بإمكانه إخبار "سي آي إيه" أنه التقى ميتشل بعد فترة قصيرة من هجمات 11 /9 في مؤتمر صغير عن التطرف الإسلامي. وقام ميتشل بتهنئة سيلغمان، وبطريقة منافقة، على عمله.
ويستدرك الموقع بأن سيلغمان لم يكن يتخيل استخدام ميتشل مبادئ عمله في هذا المجال؛ لأنها ليست مناسبة للهدف الذي أراده. وأخبر سيلغمان "سي آي إيه" بما كتبه في بريد إلكتروني لـ"ديلي بيست": "لم أعمل أبداً في التحقيق، لم أشاهد أبداً تحقيقاً، ولدي معرفة بسيطة عن أدبيات التعذيب، وبهذا فرأيي أن التحقيق هو من أجل الحصول على الحقيقة، وليس التوصل لما يحب المحقق سماعه. وأعتقد أن (العجز المكتسب) يجعل من المحقق معه مذعناً مسلوب الإرادة، لا قدرة له على التحدي، ومطيعاً، وليس لدي دليل على أنه أسلوب يؤدي لقول الحقيقة".
وأضاف سيلغمان "أشعر بالحزن والرعب من استخدام علم جيد ساعد الكثير من الأشخاص للتخلص من الضغوط النفسية، قد يكون استخدم لأغراض مريبة كهذه".
أبو زبيدة
ويؤكد الموقع أن "سي آي إيه" اشترت مقترح كل من ميتشل وجيسين بحوالي 180 مليون دولار. ويقال إن ميتشل ذهب مع فريق "سي آي إيه" للمكان الذي كان يعتقل فيه القيادي في القاعدة "أبو زبيدة"، الذي كان يعاني من جراح أصيب بها عند اعتقاله. وكان مكتب التحقيقات الفدرالي قد توصل للتفاهم مع "أبو زبيدة"، الذي كشف أن خالد الشيخ محمد هو العقل المدبر لهجمات أيلول/ سبتمبر 2001. وربما كان التقدم الذي حققه "إف بي آي" وراء دخول "سي آي إيه" على ملف التحقيقات.
ويشير الكاتب إلى ادعاءات بأن ميتشل أدى دوراً في برنامج أساليب التحقيق المحسنة، خاصة أسلوب الإيهام بالغرق، مما يجعله أكثر شخص استخدم هذا البرنامج. لكن "أبو زبيدة" قرر الصمت، مما يشير إلى سلسلة من الفشل لبرنامج ميتشل وجيسين. وربما كان استخدام "العجز الإرادي"، وراء سلسلة من المعلومات الخاطئة، التي أدت إلى الغزو الأمريكي للعراق.
ويرى دالي أنه على ما يبدو، فقد كان برنامج ميتشل- جيسين تطويراً للدليل الياباني "ملاحظات حول التحقيق مع أسرى الحرب". ومع ذلك دفعت "سي آي إيه" مبالغ كبيرة من أجل توقيع عقد مع "شركة ميتشل، جيسين وشركائهما"، وكانت قيمة العقد 180 مليون دولار.
ورقة غراهام
ويذكر التقرير أن من بين نقاد البرنامج ليندزي غراهام، الذي كان عقيداً في الجيش الأمريكي قبل أن يدخل السياسة. وكتب عام 2013 ورقة بحث بعنوان "الإيهام بالغرق: قضايا ودروس"، وتقدم الورقة تحليلاً تاريخياً لأسلوب التعذيب هذا عبر القرون.
وجاء في ورقته البحثية: "بعض التقارير تحدثت عن تفكير وزارة الدفاع استخدام الإيهام بالغرق بعد هجمات أيلول/ سبتمبر، وإن وكالة غير وزارة الدفاع استخدمت الأسلوب، ولكن على قاعدة محدودة لجمع معلومات حول موجة ثانية من الهجمات".
وتفيد الورقة أن "الإيهام بالغرق يمكن أن يترك آلاماً نفسية وجسدية، وأي وكالة حكومية أو عسكرية أو مدنية تستخدم الإيهام بالغرق تعرض نفسها للاتهام"، بحسب الموقع.
وأكدت الورقة أهمية المعاملة الإنسانية للعدو، الذي اعتقله الجيش ولأسباب لا علاقة لها بالتداعيات القانونية، فلأن الجنود هم عرضة للاعتقال في المعارك، فمعاملة غير إنسانية للأعداء قد تخلق جواً يتعرض فيه الجنود الأمريكيون الذي يقعون أسرى حرب للانتهاكات". وهو النقاش ذاته، الذي قدمه السناتور جون ماكين، الذي اعتقل وعذب لخمسة أعوام على يد الفيتناميين.
ويؤكد دالي أن هناك تقارير تتحدث عن تعرض الصحفي جيمس فولي للأسلوب نفسه على يد تنظيم الدولة الإسلامية.
ويقول التقرير إن "الطريقة التي تعامل فيها الولايات المتحدة المعتقلين تعكس قيم الأمة، ويجب رفض التعذيب والبربرية حتى في وجه عدو لدود". ويبدو أن هذا الكلام كان وراء قرار "سي آي إيه" إلغاء العقد مع ميتشل وجيسين، ولكنهما حصلا في النهاية على 81 مليون دولار.
ويختم الموقع تقريره بالإشارة إلى أن جيسين قد عين أسقفاً لجماعة المورمون، لكن تعيينه أدى إلى معارضة شديدة فألغي، ولكنه حصل على قصر مريح. وقيل إن ميتشل عاش حياة فقيرة في فلوريدا، فيجب أن يكون سعيداً بقصره الباذخ.