يتجول عبد الرحمن عيدو (40 عاما) في شارع "سد اللوز"، في الجهة الشرقية من مدينة
حلب، حاملاً على كتفه عدة معاطف شتوية جديدة، ينادي عليها، ويعرضها على المارة، حيث يشعر عبد الرحمن الأب لثلاثة أطفال بالفرح عندما يبيع واحدة منها يوميا، لأنه أحياناً يمضي يومين أو ثلاثة بدون أن يبيع قطعة واحدة.
يتقاضى عيدو مبلغ 400 ليرة سورية (أقل من دولارين أمريكيين)، عن كل قطعة يبيعها من الشخص الذي يؤمن له تلك المعاطف، فهو لا يمتلك النقود التي تخوله شراء كمية منها.
يقول عيدو في حديث خاص لـ"عربي21": "ما أجنيه من بيع هذه المعاطف يؤمن للعائلة ثمن الخبز فقط، والجمعيات الخيرية التي تنتشر في المدينة تساعدني في تأمين بعض المواد الغذائية والألبسة".
ويتابع: "لم أجد عملا منذ تم إغلاق مصنع النسيج الذي كنت أعمل فيه قبل قرابة ثلاثة أعوام، ولا أستطيع تحمل نفقات السفر إلى الأراضي التركية، ولذلك فضلت البقاء هنا، في مدينتي، على المجهول الذي ينتظرنا في الأراضي التركية".
ضرب عجلة الاقتصاد
عطلت الحرب الدائرة في البلاد النشاط
الاقتصادي الذي تشتهر به مدينة حلب، وأوقفت عجلة إنتاجها، وبخطى متسارعة، وشيئاً فشيئاً، يدخل سكان المدينة التي كانت يوماً العاصمة الاقتصادية للبلاد، في دوامة النزيف الاقتصادي غير المسبوق، والتي تتمثل بانعدام فرص العمل، مقابل موجة من التضخم الاقتصادي، وارتفاع حاد في أسعار السلع الغذائية، والمحروقات، تزامناً مع ظروف أمنية سيئة، تشهدها المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار.
وأفرز هذا الواقع غير المألوف بالنسبة للمواطن الحلبي، المعروف بجودة إنتاجه، وحبه للعمل، جملة من التحديات، وضعته في مأزق حياتي، ومعضلة اقتصادية يحاول جاهداً الخروج منها، بالبحث عما يتوفر من فرص عمل في المدينة أو حتى خارجها.
فرص عمل مشابهة
بعد أن كانت المدينة تضم آلاف المعامل التي كانت تستوعب العمال، باتت "البسطة" العمل الوحيد المتبقي أمام الشاب الذي يريد العمل. والمعروضات على هذه البسطات تشابه حكايات عوز أصحابها، فلا محلات هنا غير الأرصفة، ولا تجارة غير تجارة الخضروات والفواكه إلى الألبسة والأحذية الرخيصة الثمن. أما من يرفض هذا العمل فلديه فرصة أخرى وهي بيع التبغ والمحروقات، على الأرصفة أيضا، وما عدا هذه الأعمال فغير متاح.
أما حسين (29 عاما)، فقد رفض العمل بائعا متجولا بعد أن خسر عمله السابق سائق تكسي، لينتهي به المطاف نادلاً في مطعم يقدم الوجبات السريعة في مدينة عنتاب التركية، وهو الذي كان يمتلك سيارة "تكسي" في المدينة التي ولد فيها.
يقول حسين: "كوني معيل أسرتي الوحيد، وبعد أن تعرض منزلي للقصف، أتيت للعمل هنا مصطحباً عائلتي، فلا عمل هناك، ولم يعد أحد يركب التكسي بسبب غلاء وفقدان المحروقات، وأغلب المصانع أغلقت أبوابها".
ويضيف: "حتى هنا في الأراضي التركية نعمل بأجور متدنية، وما أتقاضاه لا يسد النفقات التي تحتاجها أسرتي بسبب غلاء المعيشة هنا".
انعدام فرص الحرب
خلق الواقع المقسم للمدينة فرص عمل أوجدت للبعض شيئاً من فرص العمل المؤقتة، إلا أن تلك الفرحة بنظر البعض لم تدم طويلاً، فتم إغلاق معبر بستان القصر الذي يفصل بين شطري حلب، الذي سمي بـ"معبر الموت"، لكثرة حوادث القنص التي حصلت فيه. وساهم هذا الإغلاق في خسارة فرص العمل التي كان يوفرها المعبر الذي كان يشهد نشاطا اقتصاديا وتجاريا.
"معجزة" غير قابلة للتفسير
لم أجد تفسيراً اقتصادياً يصف الحالة الاقتصادية التي يعيشها الأهالي هنا، ففرص العمل معدومة، والتضخم في أعلى مؤشراته، ومع هذا تجد الأهالي يستمرون في حياتهم، هذا ماقاله الخبير الاقتصادي منذر الحسن لـ"عربي21".
وأضاف الحسن أنه بالمقاربة الاقتصادية، تجد أن أهالي حلب يعيشون تحت خط الفقر، ومع غياب النشاط الاقتصادي فإن الوضع المستقبلي ينذر بكارثة اقتصادية غير محمودة النتائج.
ويستطرد قائلا: "لا حل قريبا لمشكلة
البطالة التي لا يتحمل مسؤوليتها الشباب، فهم لم يختاروها، اختارتها الحرب التي تفرز الكثير من الكوارث، وفي مقدمتها توقيف عجلة الإنتاج، بسبب غياب الاستقرار. والكل يعلم القاعدة الاقتصادية الشهيرة "رأس المال جبان"، لذلك لا حل إلا بتوقف هذه الحرب".
اقتصاد مدمر
تتحمل الحرب الدائرة مسؤولية إخماد الشعلة التي كانت تشهدها المدينة، وتغيب الإحصائيات الدقيقة عن حجم الخسائر في المدينة، إلا أن الواضح للعيان بأن لا نشاط تجاريا أو صناعيا تشهده الأحياء الخاضعة لسيطرة الثوار مطلقاً. فهذه الأحياء التي أنهكتها البراميل المتفجرة التي تلقيها طائرات النظام، بشكل مستمر، أفشلت محاولات الثوار لإعادة تدوير العجلة الاقتصادية، بالإضافة إلى غياب التخطيط من قبل الفصائل المقاتلة على الأرض.
وعن تلك المحاولات، يوضح المهندس محمد يحيى نعناع، رئيس أول دورة لـ"مجلس محافظة حلب الحرة": "إننا "كمجلس للمحافظة، كنا على دراية تامة بأهمية تدوير عجلة الإنتاج، وخصوصاً مع سيطرة قوات المعارضة على مدينة "الشيخ نجار" الصناعية، التي تعتبر من أكبر المدن في الشرق الأوسط، إلا أن محاولاتنا باءت بالفشل بسبب فكر بعض قادة فصائل المعارضة، الذي لم يتطور إلى مرحلة القيادة".
ويوضح نعناع أن "هذا القصور في التفكير أتى على أحلامنا كمجلس وعلى أحلام الأهالي، وتزامن هذا مع الهجمة التصعيدية التي تشنها القوة التدميرية للنظام الذي لم يفرق بين منشأة صناعية ومقر عسكري طالما كانت هذه المنشأة في المناطق الخارجة عن سيطرته، ولهذا وصلت المدينة إلى ما هي عليه الآن".