منذ بداية
احتجاجات القدس الدامية، والتي جاءت على خلفية الاعتداءات
الإسرائيلية ضد المسجد الأقصى، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" قد وعد بإعادة الهدوء في اللحظة التالية من إتمامه كلمته أمام وزرائه، لكنه تبيّن فيما بعد، بأن الأمر أشد من ذلك، فطفق يأخذ بالأسباب والإمكانات
المتاحة في آنٍ واحد، وما فتئ يوجد الفرصة تلو الأخرى، ليستجدِ ما استطاع للوصول إلى
الهدوء، فألقى إلى الحاخامات، وتحدث مع الحلفاء والأصدقاء، وألان من التصريحات، حتى بلغت مستويات متدنية، تدل على تخوفاته من أن الأمور ذاهبة نحو الأسوأ، سيما وأن مسؤولين في السلطة الفلسطينية، وفي حركة فتح أيضاً، يؤكّدون وفي ضوء عدم رغبتهم في خسارة الشارع الفلسطيني، على أن الاحتجاجات، هي فقط تمهيد لشيء أكبر بكثير في حال لم تتواجد انفراجات دبلوماسية، كما أن حركات أخرى كحماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى، توعّدت بأن الاحتجاجات ستتفاقم تباعاً وتهدف إلى تحقيق انتفاضة ثالثة، ومن ناحيةٍ أخرى، شكّلت له إضافة إلى اتهامه محلياً، اتهاما بأنه ينحرف نحو اليمين، أزمات مختلفة تمثّلت في انتقادات حزبية وشعبية حادّة واستقالات من الحكومة، حيث بادر"عمير بيرتس" بتقديم استقالته من الحكومة- من حزب (الحركة) - وهناك تهديدات أخرى، لحزب (هناك مستقبل) بالانسحاب أيضاً.
ربما كان "نتانياهو" أقوى، برغم صدمته،بشأن تفاقم الاحتجاجات وخروجها عن برنامجه، بسبب أنها لا تزال محصورة داخلالقدس، وأن لديه من الأصدقاء العرب الذين ينشطون في تمويل مشاريع الإسكات الكلي لها، لكن ما جعله في المكان الأضعف هي
الصدمة التالية، التي حدثت فجأة، ولم تكن في الخيال، والتي أثّرت على إسرائيل بشكلٍ عام، وسواء كان ذلك داخلياً أو خارجياً، ألا وهي حادثة
استشهاد "خير حمدان" على أيدي الشرطة الإسرائيلية - من قرية كفر كنّا داخل الخط الأخضر،
وهو طالب قانون في جامعة تل أبيب-التي أثارت عاصفةً سوداء غطّت أنحاء إسرائيل سخطاً وغضباً، وما زاد الطين بلّة، أن القتل كان مقصوداً، ولم يكن مبرراً، حيث كان بالإمكان احتجازه، أو السيطرة عليه بإطلاق الغاز في النهاية، وبدا سيناريو الحادثة كأنه مقطعٌ من أحد أفلام الرعب الهولووديّة.
انتشار آلاف الشرطيين في المناطق، وقرار المفتش العام للشرطة "يوحاناندنينو" برفع مستوى التأهب، إلى المستوى الأعلى في أعقاب المواجهات، لم تمنع قومة عرب الداخل الاحتجاجية القوية، والتي شارك فيها رؤساء مجالس محليّة وأعضاء وقوىً إسلامية ووطنية أخرى.
ما ساء الإسرائيليين أكثر، وشكّل لديهم الصدمة الحقيقية، هو أن الاحتجاجات العربية التي شاهدوها، لا توحي بأنها عفوية أو آنيّة أو لها نهاية قريبة، أو ناتجة عن عملية القتل فقط، إضافةً إلى ما ثبت لديهم بأنها جرس تنبيه إلى أمور وقضايا سياسية واجتماعية، طالما عانى منها العرب الأمرّين، وبات لديهم
أن الأمر لا يتوقف عند حادثة قتل وكفى، بل ذكّرتهم عملية القتل بأنواع العنصرية الإسرائيلية
الصّارمة، التي تؤكد على أن العرب هم مواطنون من الدرجة الرابعة، وأن إسرائيل تمارس إرهاب الدولة باتجاههم، بما يتنافى وديمقراطيّتها الزائفة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبدلاً من الاعتراف بالجريمة ومباشرة التحقيق وملاحقة القتلة، ارتفعت أصوات داعمة للمرحلة الدموية وبقوّة، حيث قام "نتانياهو" بالتحذير، وكأنه نسي احتجاجات أكتوبر عام 2000، وأحداث القدس التي لا تزال متفاقمة، بأن من لا يحترم القانون سيُعاقب بقسوة، وتعهّد
بسحب المواطنة من أي عربي يقوم بتهديد الأمن الإسرائيلي أو يدعو إلى إبادة إسرائيل. وكان المتطرف وزير الاقتصاد "نفتالي بينت" قد برر أعمال القتل، بقوله: إذا لم نقدم الدعم للشرطة الإسرائيلية التي تحمينا، فإننا سنرى المزيد من الإسرائيليين الذين يُقتلون بسكاكين وألعاب ناريّة، ويتم
دهسهم بسيارات. ومن جهته، دعم وزير الخارجية "أفيغدور ليبرمان" التصريحات السابقة بقوله: كل (إرهابي) يؤذي مواطنين إسرائيليين، يجب أن يكون حكمه الإعدام، وبالتالي فإن هذه التصريحات برغم نتوجها عن الشعور بالصدمة، شجعت نشطاء اليمين للبدء في مظاهرات مضادة وعنيفة ضد المواطنين العرب عموماً، وهي التي من شأنها الإنباء عن إشكالات قادمة أكثر وخطورةٍ أكبر.
حكومة "نتانياهو"، اليمين الإسرائيلي، وغيرهم، يخشون تماماً من أن خطوات العنف المتعمدة، وسواء الحاصلة في القدس أو أراضي الداخل أو في نطاق الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية، لا تصُبّ في حسابهم، وبالمقابل فهي ساخنة جداً بالنسبة لنا، سيما وأننا نُشاهد إسرائيل(ككل)،وهي تقف على رجلٍ واحدة ألماً وحيرة، لمعاناتها وبشدّة من جراء وصولها إلى النقطة الحرجة أمام نفسها والمجتمع الدولي أيضاً، ولا تعرف بالمطلق ما هو قادم، المهم أن يتم العثور على واحدٍ من العرب أو الفلسطينيين
بخاصة، من يستغل الفرصة.