مررتُ من جانب غرفتها ليلا وهي مستلقيةٌ على سريرها تستعد للنوم.. وقفتُ على بابها:
-عائشة الجميلة ")
-احكي لي قصة صغيرة يا ماما قبل أن أنام
حدقت فيها، في جسمها الصغير.. قبل خمسة أعوام كان قلبها ينبض تحت قلبي مباشرة، وكنتُ أضع يدي على بطني أقرأ القرآن، وأعيذها بالله من الانكسارات والضياع في متاهات هذه الحياة، "خبأتُكِ في خزائن بسم الله الرحمن الرحيم، أدافع بالله عنكِ ما تطيقين وما لا تطيقين، لا طاقة لمخلوق مع قدرة الخالق، بخفي لطف الله بجميل ستر الله بلطيف صنع الله أدخلتُكِ في كنف الله، أدافع عنكِ بالله القوي المتين ما تطيقين وما لا تطيقين".
حين صارت بين يديَّ بكيتُ كثيراً شفقةً عليها وهمّاً بها.. ضممتها إليّ طويلا.. يا الله صغيرة تائهة لا تعرف شيئا.. يا الله خذ بيدها.. وحرّ دمعي خدَّها الوليد.. وكانت تبكي وتبكي هي أيضاً.. هكذا كان أول عناق بيننا..
- ماما خلص إذا تعبانة مو ضروري
- لا حبيبتي.. على العكس أنا مشتاقة لك أصلاً
ودخلت غرفتها بأناةٍ واقتربتُ من سريرها وجثوتُ على ركبتيَّ فأدارت رأسها نحوي، وضعتُ يميني على رأسها، رفعتُ خصلات شعرها الرقيقة عن جبينها.. وقبلته.
كان يا ما كان.. كان هناك عراق جميل، فيه حدائق بابلية معلّقة فوق الغيم.. وكانت هناك طفلة عمياء حافية تلبس فستانا قديما.. كانت تدور وتدور وتدور وتبتسم.. سعيدة جداً لأنها لا ترى شيئا إلا ما ترسمه في خيالها.. كان الجو باردا جداً، وهبت الريح.. وأشتدت، توقفت الطفلة عن الدوران وصارت تتحسس شجرة أو جدارا تحتمي به من الريح.. مشت قليلا فاردةً أمامها يديها الصغيرتين النحيلتين لتتحسس لأنها لا ترى..
-طيب لماذا لم تذهب إلى البيت؟
-ليس عندها بيت.. فجأةً أحسَّت شيئاً، معطفا كبيرا يضعه أحد على كتفيها، معطف رجل.. نعم كان رجلا وألبسها معطفه..
-ياي دافئ دافئ الحمد لله
- نعم دافئ، وهي أحست بالأمان لأن أحدا معها.. الرجل أمسكها من يدها وهي لم تخف منه بل سارت معه ومشيا سريعا، أمطرت السماء لحظات، وهدأت الريح، لكنه ظل ممسكا بيدها، مشيا في الحديقة طويلا طويلا، دارا وتحدثا، قال لها إنه حزين لكنه حين رآها أشرق قلبه مع أنهما التقيا في وسط العاصفة.. مشيا ومشيا، كانت الطفلة ...
-ما اسمها؟
- اسمها ميس.. كانت ميس لا تتعب سريعا، لكن الرجل تعب فساقها حتى وصلا حافة الحديقة المعلقة في السماء.. ثمّ
-ماذا؟
-قال لها فستانك متسخ دعيني أنفض عنه الغبار
-ما ألطفه ماما ") !
-نعم، وضرب برفق مرتين على ظهرها.. ثم المرة الثالثة.. ضربها بقوة ودفعها إلى الأسفل، تشبثت ميس وأخذت تصرخ وتستنجد به، هو تظاهر بأنه يحاول إنقاذها فأمسكها من طرف المعطف.. أخذ معطفه وتركها تسقط!
فغرت عائشةُ فاها، وحدَّقت فيَّ بعينيها المدورتين الكبيرتين وجفّ وجهها وارتجفت ثم احمرّت عيناها ونبعت منها دمعةٌ مُرّة.. بلعت ريقها وسألت:
- لماذا؟
- لا أدري!
وسالت دموعي غزيرة على خدي بصمت، وهي مذهولة تراقب بريقها في ضوء القمر المتسلل من النافذة..
لا تصدقي في يوم رجلا قال لك: إذا سنحت لي الظروف سأتزوجك.. ستنتظرينه وسيغيـــب، وستبحثين أثره ولا تجدينه، وحين يبدأ الشيبُ يأكل أطراف صِباكِ سترينه مصادفة في مول صاخب، سيكون برفقة ثلاثة أطفال مهندمين وامرأة حسناء عيونها بنية مغرية ونظراتها شرسة مثيرة.. قوامها ممشوق مع أنها حامل، ستحدقين فيه طويلا وتكيلين له ألف شتيمة، ستبدأ امرأته بالشك، وسيتظاهر هو بأنه لا يعرفك، وقد يقدم لك فراطة على اعتبار أنك شحادة تستجدين عطفه أو أي شيء آخر.. ثم يصرف نظره عنك ويدقق في المعلومات الغذائية على ظهر علبة فول!
نحن يا حبيبتي كما نحن قوارير رقيقة، ورجال اليوم طواسي نحاسية فجة فظة ثقيلة، حين يخترقون قلوبنا يهشمون كل ما فينا ولا يتأثرون، يهشمون عشرين منا، خمسين، مئة، ولا يتأثرون..
نهضت عائشة من سريرها:
-أوغاد
-نعم
-كلاب
-نعم نعم
بكينا طويلا، ذقني فوق كتفها ودمعي يغسلنا معاً، ويحرق أعشاش العصافير في أحلامها، زفراتي تكوي جنحان الفراشات في أحلامها، شهقاتي تلتهم الورود فيجرح الشوكُ حلقي، وأعاصيري تكسر حوافر خيل فارس قادم من بعيد.. فيسقط.. رأيت عائشة تركض نحوه وتذيقه لكما وضربا بيديها الصغيرتين.. وتشتمه!
تعانقنا وبكينا طويلاً.. كأول مرة رأيتُ فيها عائشة!