مقالات مختارة

«الدولة المهاجرة»: داعش تتحدّى ابن خلدون

وسام سعادة
1300x600
1300x600
كتب وسام سعادة: لا تختلف كثيراً الاتهامات التي وجهها علماء المشرق والمغرب في مطلع القرن التاسع عشر، والتي جمعها حمادي رديسي وأسماء نويرة في كتاب صادر عن دار الطليعة، قبل بضع سنوات، في جزأين، تحت عنوان «الرّد على الوهّابية»، عن منطق التبديع المضاد والتكفير المضاد الذي تواجَه به دولة «الخلافة التي على منهاج النبوة» الداعشية، سواء من قوى وظواهر تشاركها اليافطة «السلفية الجهادية»، أو من السلفيات «الموادعة» لولاة الأمر، أو من دعاة تأصيل قيم الاعتدال والتسامح والحوار، أو من دعاة «الجهاد المهدوي» ضدّ التكفيريين، أو من مروّجي «الإسلاموفوبيا» المعاد توضيبها وطنياً، وتجييرها مذهبياً أو أيديولوجياً.

في مطلع القرن التاسع عشر، وعشية حملة طوسون باشا لتدمير الدولة السعودية الأولى وتخريب عاصمتها، الدرعية، عام 1818، بطلب من الباب العالي، انتشرت عملية إرْجاع الفرقة الوهابية إمّا إلى الأزارقة من الخوارج، وإمّا إلى مُسيلمة الكذاب، أي بمنحى اقصائي عن الملّة، وتعيين لأصل الفرقة المُبَدَّعة ولنزعتها التكفيريّة المغالية في انحراف سبق للملّة نفسها أن واجهته ودحضته.

هذا أيضاً يحدث الآن، وهو بحدوثه يُرشد الى علامات تشابه غير قليلة بين دولة الدرعية، ودولة الموصل والرقّة الداعشية، لكن التشابه الأكبر هو في الدعاية الأيديولوجية بين تطويق كل منهما رغم الفاصل الزمني المقدّر بمئتي عام. 

لكن اذا ما نحينا التشابه في أسلوب الرّد على دولة الدرعية من علماء المشرق والمغرب وما يعتمد للرّد على داعش اليوم، لرأينا اختلافاً أساسياً فدولة الدرعية بقيت، على حنبليتها – التيميّة، متقيّدة بالمعادلة التي رسمها ابن خلدون «وذلك ان الرياسة لا تكون الا بالغلب والغلب انما يكون بالعصبية».
فالعصبية القبلية، والتحالف بين آل سعود وبين ابناء ابن عبد الوهاب، يظهر دولة الدرعية بمظهر من استبطن التوصيف الخلدوني لقيام المغالبة، في حين أنّه لا يمكن قول الشيء نفسه عن داعش، فهي بمعنى من المعاني تتحدى ابن خلدون، اذ لا تستند الى عصبية قبلية محورية، وهي بخلاف مركز القومة العربية السنية في العراق، ذات التشكيل العشائري، ليست لا «أنبارية» ولا «موصلية» ولا «رقّية».

ليس صحيحاً أن «داعش» هبطت بين ظهرانينا من الفضاء الخارجي، لكنها لا تقيم علاقة «لُحمة» مع عصبية أهليّة.

بالتأكيد استطاعت داعش أن تنمو على أرضية «المسألة العربية السنية» كما طرحت نفسها ما بين الاسقاط الأمريكي للنظام البعثي العراقي، المستند الى قاعدة عربية سنية بالأساس، في بلد يشكّل الشيعة أكثر من نصف سكّانه، وينقسم سنّته بين العرب وبين الكرد، وما بين امتناع النظام البعثي السوري عن السقوط بعد ثلاث سنوات ونصف من الثورة والحرب، رغم طابعه الفئوي الأقلوي، ورغم تحريك المعطى الأكثري السني في مواجهته. 

استطاعت «داعش» ان تنمو على ظهر «المسألة العربية السنية» في العراق والشام، لأنها فطنت الى أمر في غاية البساطة: «العرب السنة» باتوا بلا دولة في الإقليم، بعد أن سحب الغزو الخارجي والانقلاب المذهبي الداخلي «الدولة الوطنية» منهم حيث كانوا يتماهون معها في العراق، ولم تؤول «الدولة الوطنية» لهم حيث هم أكثرية في سوريا، رغم الثورة الشعبية والكفاح المسلّح.

« الحل الداعشي» جاء يصل بين المساحتين العراقية والسورية، ما دامت المسألة العربية السنّية فيهما واحدة، فأعلن الطلاق من هذا المنطلق بالذات مع «الدولة الوطنية» التي اما صارت وبالاً على السنة العرب (حال العراق) واما هي وبال مزمن تحول الى مجزرة متواصلة وشاملة (حال سوريا).

البديل عن هذه «الدولة الوطنية الوبالية» إذاً لا يمكنه أن يكون «دولة وطنية حقيقية»، انما دولة من نوع آخر، دولة تحطّم «صنم الوطنية» وتزيل الحدود التي رسمها المبضع الاستعماري في الوقت نفسه. 

«داعش» تحاكي «المسألة العربية السنية» في العراق والشام بشكل يذكرنا بمحاكاة حركة «طالبان» للمسألة الباشتونية، أي تلك الجماعة الاثنية الممتدة بين أفغانستان والباكستان. لكن بعد ذلك يظهر اختلاف عميق بين «داعش» و»طالبان». فـ»طالبان» متصالحة كثيراً مع هذه المطابقة بينها وبين المسألة الإثنية الباشتونية، ويمكن الاستطراد أنه، في عرفها، يلعب الباشتون دوراً توحيدياً للإسلام في شمال شبه القارة الهندية. العصبية هنا إثنية أكثر منها قبلية، لكنها تبقى مع ذلك عصبية تستعيد النموذج الخلدوني للمغالبة، تطوره وتوسّعه ولا تتحدّاه. وحتى دينياً، ورغم تحالفاتها الجهادية الأممية، تبقى طالبان حنفية المذهب، ماتريدية العقيدة، وممتزجة بالصوفية بالنقشبندية. لها موقع اثني متكامل اذاً تستقبل من خلاله المتطوعين للجهاد الى جانبها من الأصقاع الأخرى، وتحفظ به مغايرتها الفقهية والأيديولوجية عنهم. امارتها كانت اذاً بالدرجة الأولى «إمارة أنصار». ثنائية «المهاجرون والأنصار» تحضر في تجربتها بالطبع، كما في مختلف تجارب السيطرة الترابية للحركات الجهادية على بقاع من العالم الاسلامي في العقدين الاخيرين، لكن هذه الثنائية معقودة اللواء فيها لـ»الأنصار» على «المهاجرين». 

أمّا «داعش» فتقلب هذه المعادلة رأساً على عقب. رغم انها تستند الى مسألة عربية سنية تتعلق بملايين العرب السنة في سوريا والعراق، الا أنّها لا تريد أن ترى نفسها في هذه المرآة. باستعادة ثنائية «المهاجرون والأنصار» تكون داعش «دولة مهاجرين»، بل «دولة مهاجرة»، ولو أنّ أميرها من أهل البلد. ليست هي دولة تحالف قبائل وعشائر الموصل والأنبار والحسكة والرقة والجزيرة ودير الزور والبوكمال كي تكون «دولة أنصارية» مزدانة بطلائع من المتطوّعين المهاجرين. ليست دولة تتعرف على نفسها لا في طبقات حنابلة بغداد ودمشق ولا في طبقات الحنفيين والشوافع. بل هي في نخاعها الشوكي نفسه دولة المهاجرين الذين استطاعوا الدمج بين مسألة عربية سنية في فرعها العراقي، وبين مسألة عربية سنية في فرعها السوري، دون ان يكون بامكانهم اقرار أهل السنة في البلدين على ما هم عليه من عرف ومن دين ومن تعددية سنية «داخلية»، بل يصار مع «داعش» الى «اعادة هندستهم» كسنّة، على ما تظنّ داعش أنه صورة الإسلام الأولى والنهائية في ذات الوقت. 

هذه «الدولة المهاجرة» تتحدى ابن خلدون: التغلّب فيها هو تغلّب على العصبية القبلية. المهاجرون ينسلخون عن عصبياتهم، وأوطانهم، ويلتحمون بالدولة المهاجرة عضوياً، انما بعد أن يمرّوا بمصنع «ليبرالي لاواعٍ» «يُفرْدنهم»، عن كل مسقط رأس وفخذ وعشيرة. وبالتوازي، هم يدركون جيداً طبيعة الواقع العشائري حيث هم منتشرون، ويحتاجون الى «مسايسته»، لكنهم يدركون ايضاً ان مقتل «دولتهم» حين يسلّمون بقيام تحالف بين العشائر. فهكذا تحالف هو الذي سبق له، قبل بضع سنوات أن ضعضع «دولة العراق الاسلامية» الزرقاوية ولا نية لدى «داعش» لتسهيل اموره مجدداً اليوم. كان لينين يرى ان الصراع الطبقي متروك للعمال وحدهم، دون اسهام المثقفين الثوريين، سيتمخض عن نضال «نقابات» لا اكثر. داعش ترى ان نضال العرب السنة متروكين لعشائرهم دون اسهام «المثقفين الثوريين»، اي «المهاجرين» في هذه الحالة، سيتمخض عن «صحوات» لا اكثر. التحريض اللينيني ضد الحدود «التريدينيونية» للوعي يجد مصداقه في داعش. 

وبصفتها كـ«دولة مهاجرة» تبدو «داعش» آخذة، بخبرة كولونيالية – انثروبولوجية، في أسلوب التعامل مع العشائر، كجماعات «انقسامية» بامتياز، اي في داخلها وفيما بينها، وليس فقط كـ»عصبيات» متماسكة، أي كمن يلعب لعبة الأنثروبولوجي ادوارد ايفانز بريتشارد ضد العلامة ابن خلدون!

(القدس العربي)
التعليقات (0)