مقالات مختارة

كل شيء إلا كركوك

غسان شربل
1300x600
1300x600
كتب غشان شربل: أدخل العامل كأسين من الشاي. وضع الأول أمام السيد الرئيس والثاني أمام ضيفه. سارع صدام حسين إلى تبديل موقعي الكأسين. كان يريد القول لمسعود بارزاني أن الشاي ليس مسموما وانه لا يغدر بضيوفه. كان ذلك في 1991. أي بعد سحق انتفاضة الأكراد، وبعد سنوات من حملة الأنفال وقصف حلبجة.

كان اللقاء صعبا ورهيبا. قال صدام لضيفه: «اعرف انك اتخذت قرارا صعبا». رد مسعود: «جئتك سابحا في بحر من الدم لكن اذا كانت هناك فرصة لحل مشرف فإنني مستعد». وكان يشير إلى مقتل 180 الف كردي، بينهم ثمانية الآف من عشيرته وثلاثة من أشقائه. لنترك تفاصيل ذلك اللقاء. ما يعنينا منه اليوم جملة مذهلة فاجأت الزائر نفسه. قال صدام: «نحن لا ننكر أن كركوك كردية لكننا لا يمكن أن نعطيكم إياها لأنها قاعدة جاهزة لإعلان دولة... كل شيء إلا كركوك». وكان يلمح إلى الثروة النفطية في منطقة كركوك.

قبل أسابيع من ذلك اللقاء كانت بغداد استقبلت وفدا كرديا برئاسة جلال طالباني. وخلال نقاش حول كركوك سمع الوفد من طارق عزيز جملة بالغة القسوة وهي «ليس لكم في كركوك غير حق البكاء عليها».

على مدى عقود كانت كركوك خطا احمر. لا يستطيع حاكم بغداد التنازل عنها ولا يستطيع القادة الأكراد التسليم بخسارتها إلى الأبد. وأهمية كركوك لا تقتصر فقط على ثروتها. لاسمها في وجدان الأكراد «رنة تكاد تعادل رنة اسم القدس في وجدان الفلسطينيين». حاول صدام حسم المسألة بأسلوب الضربة القاضية عبر تهجير الأكراد والتعريب القسري. لم يدر في باله أن أخطاء نوري المالكي ستسهل لاحقا عودة كركوك إلى الحضن الكردي.

كانت كركوك أيضا خطا احمر بالنسبة إلى الدول المجاورة للعراق التي تضم أقليات كردية. كان من أهداف اللقاءات الثلاثية الإيرانية - التركية - السورية التي عقدت في التسعينات منع قيام كيان كردي أو على الأقل منع أي كيان كردي محتمل من استعادة كركوك التي تضم خليطا من الأكراد والعرب والتركمان. هذا لا يلغي أن ايران ساعدت الأكراد لاستنزاف نظام صدام. وان سورية حافظ الأسد فعلت شيئا مشابها. لكن المساعدة كانت بهدف أشغال صدام أو إسقاطه وليست بهدف تسهيل قيام كيان كردي.

اعتاد حاكم بغداد إرسال الجيش لـ «تأديب» الأكراد. لكن ارتباكاته توفر لهم أحيانا فرصا تاريخية. كان إشراك الأكراد ضروريا للإطاحة بصدام حسين. التقطوا الفرصة التاريخية. يشاركون شرط قيام عراق ديموقراطي وفيدرالي. وهذا ما حصل. سيرتكب نوري المالكي خطأ مكلفا خلال ولايتيه الصاخبتين. تجاهل المادة 140 من الدستور التي تنص على معالجة قضية المناطق المتنازع عليها عبر التطبيع والتعويض ثم الاستفتاء.

اغلب الظن أن المالكي يشعر في قرارة نفسه بما اعترف به صدام في لقائه مسعود وهو أن كركوك كردية ونتائج الاستفتاء معروفة سلفا. دفع المالكي المادة المذكورة إلى الثلاجة كمن يبعد كأس السم عن شفتيه. إصابته أعراض الحاكم العراقي القوي. حاول لي ذراع إقليم كردستان ثم حاول لي ذراع المكون السني. خسر الاثنين فاطلت «داعش» في الموصل. انهار الجيش العراقي في المناطق المتنازع عليها فتقدمت البشمرجة للدفاع عنها. اعلن بارزاني عن إجراء استفتاء حول مستقبل كركوك وهو ما كان يفترض أن يفعله المالكي منذ سنوات.

أساء نوري المالكي تقدير عوامل عدة. جاذبية الازدهار الذي يعيشه إقليم كردستان بالنسبة إلى أكراد المناطق المتنازع عليها. والجملة التي اطلقها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أروغان لدى زيارته اقليم كردستان ومفادها ان الزمن الذي كان يمكن فيه انكار حقوق الاكراد قد ولى. والعامل الثالث ان بارزاني كان في طليعة من شجعوا اردوغان على فتح صفحة جديدة مع عبد الله اوجلان واكراد تركيا.

يتوهم المستبد انه يحرس الخريطة. ينسى ان القهر والاقصاء يحولانها سجنا ويغريان الاقليات بالفرار عند اول سانحة. لا مصلحة للاكراد في الفرار من العراق الغني اذا كان ديموقراطيا وفيدراليا وكانوا فيه شركاء كاملين. قصة كركوك تستحق التوقف عندها. على دول المنطقة تحسس خرائطها. تحتاج الخرائط الى صيانة دائمة وعلى قاعدة الشراكة والانصاف. اكراد سورية يعيشون اليوم في ظل «ادارات ذاتية». لا يكفي ان يقول الحاكم «كل شيء الا كركوك». عليه تجرع سم الشراكة باكرا للاحتفاظ بها.

(عن الحياة اللندنية 30 حزيران/ يونيو 2014)
التعليقات (0)