حقوق وحريات

مسلمو مسجد بانغي المركزي.. "لاجئون ترانزيت"

مسجد بانغي
مسجد بانغي
يكاد كل واحد منهم يختزن في ذاكرته وعينيه قصصا لمآس ومشاهد بشعة في أعمال قتل وذبح طالت أقرب الناس إليه..

منذ اندلاع العنف الطائفي بافريقيا الوسطى في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، انتصب مخيّم للنازحين بساحة المسجد المركزي ببانغي (عاصمة إفريقيا الوسطى)، في قلب حيّ "الكيلومتر 5" آخر معاقل المسلمين هناك.. أكثر من ألفي لاجئ يرابضون في هذه الساحة بانتظار إجلائهم إلى إحدى دول الجوار، كخيار وحيد يظلّ قائما في ظلّ صعوبة التوصّل إلى حلّ للأزمة بإفريقيا الوسطى.. هؤلاء اللاجئون العالقون في محيط المسجد يمكن أن يطلق عليهم بامتياز  "لاجئون ترانزيت"..   

ساحة المسجد المركزي في بانغي تحوّلت إلى ما يشبه المخيّم.. بعض العربات اصطفّت لتصنع جدارا يفصل اللاجئين عن بقية رواد المسجد.. الأمتعة الملقاة بإهمال في الزوايا تحسّبا لسفر مفاجئ، والحبال الممتدّة بين أغصان الأشجار والتي تستعملها النساء لنشر الملابس المبللة.. كلّ شيء يشي بعمق المأساة الإنسانية التي يعيشها المسلمون في ذلك المكان..

يحصل سكان المخيم على إمدادات المياه الصالحة للشرب وعلى الرعاية الطبية من منظمة "أطباء بلا حدود"، في حين يتكفل برنامج الأغذية العالمي بتزويدهم بالوقود من وقت لآخر.. ففي هذا المخيم تتقاطع مصائر أولئك المسلمين، وتتوحّد آمالهم بعد أن نزحوا هربا من عمليات العنف التي تستهدفهم من قبل ميليشيات "أنتي بالاكا" المسيحية.

هذه الميلشيات التي تشكّلت ردا على انتهاكات تحالف المجموعات السياسية والعسكرية "سيليكا"، التي أطاحت بالرئيس السابق "فرنسوا بوزيزي" في آذار/ مارس 2013، لتطلق في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي هجوما على بانغي، انتهى بالزج بالبلاد في دوامة العنف الطائفي. ومنذ ذلك الحين، بدأت المطاردات التي استهدفت المسلمين، وأجبرت عددا منهم على مغادرة البلاد.. ومع إجلاء عشرات الآلاف منهم نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، تحوّل مخيم مسجد بانغي المركزي إلى نقطة الالتقاء الوحيدة التي يتجمّع فيها المسلمون في عاصمة إفريقيا الوسطى.   

أحياء المسلمين في بانغي تحوّلت إلى مرتع للميلشيات المسيحية، على غرار حيّ "ميسكين" و"بوي رابي"، حيث لم يتبقّ سوى مسلم واحد هو "موسى علي".. هذا التاجر ذو الـ 45 سنة، بقي وحيدا بعد إجلاء أسرته في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر الماضي.. كان عليه هو الآخر أن يترك ممتلكاته، أياما قليلة بعد ذلك، ويهرب في الصباح الباكر.. اضطرّ إلى الاختباء من ممرّ إلى آخر إلى حين بلوغه حيّ "الكيلومتر 5".. لم يكن يرغب سوى في البقاء ببلده،فيقول: "إفريقيا الوسطى هي موطني. إلى أين يسعني الذهاب؟ إذا لم يحلّ السلام، فمن المحتمل أن أتوجّه نحو الشمال الشرقي للبلاد"، أي إلى المنطقة الخاضعة لسيطرة ميليشيات السيليكا المسلمة.

وفي المنزل المجاور للمسجد، يقيم آخر مسلمي مدينة "مبايكي" الواقعة على بعد 70 كم غربي بانغي.. جاء انتقالهم إلى ذلك المكان عقب المجزرة التي جدّت في الرابع عشر من شباط/ فبراير الماضي، حين قتل نائب عمدة المدينة "صالح ديدو" على أيدي "أنتي بالاكا". وعقب الحادثة، قامت مجموعة من الشباب بنهب ممتلكاته وقتل ماشيته قبل أن يحرقوا منزله في وضح النهار..

"أمادو غاري" روى، من جهته، للأناضول تفاصيل رحلته المأساوية قائلا: "استقرّت عائلتي بمدينة مبايكي منذ العام 1935، حيث افتتحت مقهى، وتمكّنا بمرور الزمن من الاندماج في المجتمع، حتّى أنّ أحد أقاربي كان من نواب البرلمان في إفريقيا الوسطى.. كانت حياتنا هادئة، غير أنّ الوضع سرعان ما تدهور مع قدوم 160 عنصرا تابعين لـ "أنتي بالاكا" في الحادي والثلاثين من كانون الثاني/ يناير الماضي.. قاموا بتحريض السكان ضدّنا، وهو ما دفع الأربعة آلاف تشادي الموجودين بالمدينة إلى الرحيل على متن شاحنات في السادس من شباط/ فبراير الماضي.. لقد اضطرّ معظمنا إلى الرحيل أيضا، ولم يتبقّ سوى العشرات برفقة نائب عمدة المدينة.. كانوا يبتغون من وراء بقائهم فرصة للسلام، فـ "صالح ديدو" كان دائما يقول "أنا لا أخشى الموت، ولم أرتكب أمرا أستحقّ عليه اللوم".. 

"صالح ديدو" قضى يوم الجمعة 14 آذار/ مارس الجاري، حين أحاط حشد بشري بمنزله.. ولدى خروجه برفقة جندي، تمكّنت الحشود من توجيه طعنات إلى مستويات مختلفة من جسده، كما ذبحوا امرأة وقطعوا أوصالها.." "أمادو" تابع بمرارة "من أجل كلّ هذه الفظائع، كان علينا التوجّه نحو مسجد بانغي الرئيسي في انتظار رحيلنا إلى مالي". 

وفي السياق ذاته، قال ابراهيم آلادي أباكار (38 سنة): "جئت إلى إفريقيا الوسطى قادما من جنوب السودان سنة 1996.. أقمت بحي "بوينغ" القريب من مطار بانغي.. وفي الخامس من كانون الأوّل/ ديسمبر، تناهى إلى مسامعي ضجيج حادّ، وحين خرجت لاستطلاع ما يحدث، لم أتمكّن من العودة إلى منزلي.. في الخارج، وجدت جثتين لطفلين صغيرين سرعان ما تبيّن أنّهما طفلاي، ثمّ اكتشفت بعد ذلك اختفاء كلّ أفراد عائلتي.. أنا الآن محتجز هنا، ولا أستطيع العودة إلى جنوب السودان". 

وفي الفناء الصغير لمسجد بانغي المركزي، تقيم عائلة من شعوب "الفولاني".. في السابق كانت تقيم في ضواحي العاصمة، إلاّ أنّه كان عليها الهرب خوفا من بطش "أنتي بالاكا"، تاركة وراءها بضعة عشرات الآلاف من الماشية، وتنتظر حاليا إجلاءها إلى الكاميرون.  

ووفقا للمعطيات المتوفّرة من المنظّمة الدولية للهجرة في شباط/ فبراير الماضي، فإنّ 44 % من اللاجئين بمخيم المسجد المركزي ببانغي يتطلّعون إلى الذهاب نحو تشاد، غير أنّ هذا البلد يشترط تقديم وثائق ثبوت الجنسية التشادية. وهي إجراءات اعتبرها المراقبون  "غير مرنة" مقارنة بما يتطلّبه الوضع الإنساني في افريقيا الوسطى. 11 % يأملون في المغادرة نحو الكاميرون على متن القافلة البرية التي تقوم برحلات دورية لإجلاء الناس تحت حراسة القوات الدولية (الميسكا)، في حين أنّ 31% منهم يودّون البقاء في إفريقيا الوسطى.. حالة من عدم الاكتراث بالمستقبل تعتريهم بعد أن فقدوا كلّ شيء، وفقد المكان تبعا لذلك كلّ معنى لديهم..
التعليقات (0)