آخر هذا الشهر وتحديدا في اليوم التاسع والعشرين سيعقد مجلس ادارة "
صندوق النقد الدولي" اجتماعا لتدارس امكانية منح تونس القسط الثاني من قرض منحه لتونس منذ شهر جوان الماضي.
القرض الذي تبلغ قيمته الجملية 1736 مليون دولار تم الاتفاق على دفعه على اقساط (أو امكانية "السحب" على دفعات) وكان من المفترض ان يتم منح القسط أو "السحب" الثاني الذي يبلغ 500 مليون دولار آخر شهر ديسمبر وهو ما لم يتم لأسباب سياسية لم تكن مضمنة في نص الاتفاق الاولي ويتعلق ذلك بالتوافق الوطني على حكومة "مستقلين" او "تكنوقراط". ولكن ايضا حتى التأكد من التصويت على الميزانية الجديدة التي تتضمن اجراءات تستهدف الحد من العجز خاصة عبر الترفيع في عدد من الضرائب.
من المهم الاشارة هنا الى ان هذا القسط ضروري للحصول على سلسلة قروض من مؤسسات مالية دولية اخرى بما في الاتحاد الاوروبي (250 مليون يورو) والبنك الدولي (250 مليون دولار)، الذي برغم الاستجابة لبنود الاتفاق معه فلن يقوم باقراض الدولة التونسية اذا لم يقم "صندوق النقد" بذلك، وهو ما ينسجم مع تقاليد انضباط المؤسسات المالية الدولية لمرجعية "صندوق النقد". الاهم من كل ذلك ان التمويل الخارجي ضروري للتقليص اكثر ما امكن في عجز الميزانية لهذ العام لييبقى في مستوى5 الاف مليار من الدنانير التونسية (في ميزانية تبلغ حوالي 27 الف مليار دينار).
وسط هذا الاسبوع وبحلول الرابع عشر من جانفي سيحتفل التونسيون بالذكرى الثالثة لهروب الدكتاتور بن علي اثر انتفاضة اجتماعية- سياسية استمرت الشهر فرغت كل مخزون القهرالاجتماعي والسياسي تحت حكمه. غير أنه اياما قليل قبل ذلك هناك تململ اجتماعي وسط عديد التونسيين بسبب ما فهموه من الاستتباعات الجبائية لميزانية سنة 2014.
المفارقة الابرز هو انه مع انغماس النخبة السياسية في التصويت على فصول دستور توافقي وتركيز هيئة الانتخابات وسط حالة من الاعتزاز الذاتي والغبطة الدولية كانت اهتمامات قطاعات واسعة من الشارع هي "الاتاوات" التي يجب ان تدفعها في سياق الميزانية الجديدة لاسيما الزيادات في رسوم الجولان لعربات النقل الفلاحي.
بالتأكيد اننا إزاء مرحلة انتقالية صعبة نحو التأسيس للديمقراطية مقابل توقعات تنموية عالية للمنتفضين خاصة في الجهات الداخلية الاكثر فقرا، ومن ثمة نحن ازاء عائق موضوعي اساسي وهو استحالة قيام حكومة انتقالية مداها الزمني محدود ومرتهن بالمهام التأسيسية الدستورية باصلاحات هيكلية عميقة.
يبقى اننا امام اهم معضلات
الديمقراطية: كيف يمكن للديمقراطية ان تدافع عن بقائها فقط بنجاح نخبتها السياسية على التوافق على عقد سياسي جديد بدون ان يترافق مع ذلك افق لعقد اجتماعي جديد يحظى بايمان مشترك قبل الشروع في تنفيذه.
من الضروري ان نتذكر في هذا السياق ان قصة الثورة التونسية لم تكن مجرد انتفاضة على دكتاتور أخرق سمح لعائلته باقتسام
اهم مصادر الثروة والتأسيس لنظام "حكم اللصوص" الكليبتوقراطي. بل هي ايضا وبما يتجاوز الصبغة الذاتية والعائلية للحاكم انتفاضة على خيارات اقتصادية واجتماعية قديمة لنخبة غير كفأة موالية للدكتاتورية ومتماهية بشكلمطلق مع فلسفة "صندوق النقد".
يقول محمد المبروك الباحث في "المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية": "متابعة سياسة ميزانيّة الدولة منذ 1986 تفضي إلى أنّ برنامج الإصلاح الهيكلي لسنة 1986 واتفاقيّة التبادل الحرّ مع أوروبا لسنة 1995 كان لهما تأثير عميق على المسار الاقتصادي للبلاد.
ذلك أنّ مبدأ انسحاب الدول ومبدأ التفكيك الجمركيّ قد ساعدا على تطوير قطاع خاصّ ف السنوات الأولى وتطوّر التشغيل وتراجع العجز. ولكن سرعان ما وصل السوق إلى وضع التشبع وبدأت تظهر عيوب تلك التدابير… من سلبيّات هذا النظام أنّ حريّة التوريد وإلغاء الضرائب عن التوريد يؤدّيان إلى العجز الجاري وانخفاض الدينار.
ممّا يضر بالقدرة الشرائيّة للطبقة المتوسّطة ويزيد أرباح الشركات المصدِّرة ويقلّص من ادخار الدولة.. النتيجة هي توجّه عام نحو الاستهلاك بدلا من الاستثمار ونحو الطبقيّة بدلا من العدالة الاجتماعيّة" (مقتطف من تقرير صدر في ديسمبر بعنوان "ميزانية 2014 على ضوء المسار الاقتصادي للبلاد منذ العهد النوفمبري").
من المهم التذكير في هذا السياق بأن "صندوق النقد" كان يرعى "المعجزة التونسية" للدكتاتور ورافقها عبر تقارير مليئة بالمديح حتى
اشهر معدودة قبل اندلاع الثورة. كما يجب ان نضيف ان النخبة غير الكفؤة المنبعثة من النظام القديم التي رافقت المرحلة الانتقالية حتى الانتخابات الماضية اغرقت الدولة في سلسلة زيادات اجور غير مسبوقة بلغت ثلاثة الاف مليار في ظرف اقل من سنة.
أحد عناوين هذه المرحلة شركات مثل "الشريكة البيئية" التابعة لشركة فسفاط قفصة والتي بلغ عدد "عمالها" حوالي السبعة الاف شخص يتلقون اجورا بدون القيام باي عمل.
شركة فسفاط قفصة وهي احد المؤسسات العمومية النادرة التي تربح في السابق وتقدم اضافة مهمة على مستوى الميزانية اثقل كاهلها واصبحت بسبب الاعتصامات والاضرابات العشوائية والمطلبية المفرطة شركة خاسرة لاول مرة منذ سنة 1995.
هنا نحن ازاء مفترق طرق رئيسي بعد الانتخابات القادمة اذا وصلنا اليها بسلام فعلى من يتحصل على التفويض الشعبي ان يختار بعناية احد الخيارين: إما الانضباط للمسار الاقتصادي التقليدي الذي تفرضه الفلسفة الليبرالية عبر سلطاتها المؤسسية العابرة للقارات مثل "صندوق النقد" حيث الرئيسي هو الضغط على مصاريف الرعاية الاجتماعية والتقليص بقوة من كل الضغوط الممكنة على الاستثمار الخاص الداخلي منه لكن خاصة الاجنبي.
وإما امساك الدولة بمقاليد الامور بشكل مؤقت وتحديدها مخططات تنموية للاستثمار تركز على تقليص العجز عبر التقشف لكن مقابل الاستثمار في الامنين الغذائي والطاقي طويل الامد.
وقد حدث صراع حقيقي داخل "الترويكا" الحاكمة بين شهري افريل وجوان الماضيين حول القبول بالمضي في الخيار الاول بسبب اعتراضات حزب المؤتمر على ذلك على أساس اننا لا نزال في مرحلة انتقالية لا تسمح بالمضي في اصلاحات هيكلية وأن الخطة التي وافق على دعمها "صندوق النقد" تجعل الضغط مركزا اساسا على اصحاب الدخل المتوسط والضعيف من خلال التركيز من جهة على الرفع في الجباية على الطبقة الوسطى وايضا اصلاح منظومة الدعم (وهو امر ضروري لكن يتطلب وقتا اطول مما هو مبرمج) مقابل مطالبة الدولة بضخ مئات ملايين الدنانير من اموال دافعي الضرائب في حسابات البنوك العمومية لتعويض خسائر وسوء تصرف نخبة رجال الاعمال القريبة من السلطة قبل الثورة.
و تتحمل المعارضة جزءا من المسؤولية ايضا وليس فقط الحكومة من خلال ايهام المواطنين بأن المرحلة تحتمل اصلاحات هيكلية، وبعضها يتصرف بشكل لامسؤول يجعلها تغامر بالاتقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي باستغلال اي شيء بما في ذلك الاحتجاج الاجتماعي المشروع.
للاشارة هنا ان الدولة، من خلال ميزانيات ما بعد الثورة، هي اصلا اكثر طرف يقوم بالتمويل في السنين الاخيرة لكن في اتجاه الاستهلاك وليس الاستثمار. الخيار صعب لكنه ضروري وفي الحالتين مكلف وموجع. يبقى ان المحدد في النهاية هو الثمن الاقل سوءا والافضل اذا كان لزاما علينا في جميع الاحوال القيام بتضحيات.
وقبل هذا وبعده بحلنا لهذه المعضلة نحن ازاء حماية حقنا في ديمقراطية مستدامة وليس حقنا في تنمية مستدامة فحسب.