هذا الشهر زاخر بمناسبات الذكرى. ولعل من أهم هذه المناسبات الحافزة على محاولة الاستعادة أو الاستفادة أو الاعتبار المئويةُ الثالثة لمولد الفيلسوف الفذ إيمانويل كانط، والذكرى التاسعة والستون لوفاة أنشتاين، والذكرى الرابعة والأربعون لوفاة سارتر.
أما سياسيا، فلعل من أهمها ذكرى الغارات الجوية التي شنتها الطائرات
النازية والفاشية على بلدة غرنيكا في إقليم الباسك أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، وذكرى تحرير
إيطاليا من الحكم الفاشي والاحتلال النازي عام 1945، وخمسينيّة تحرّر الشعب البرتغالي من أقدم الدكتاتوريات الأوروبية عام 1974.
وللحدثين الأخيرين أهمية لنا نحن العرب نظرا إلى التواصل الجغرافي والتاريخي بيننا وبين إيطاليا والبرتغال، ونظرا إلى أن حنين إيطاليا إلى تراثها الفاشي ينطوي على أخطار بالنسبة لنا، خصوصا في المغرب العربي ومصر، أي في الشمال الأفريقي كله. أما نجاح ثورة القرنفل في البرتغال، التي كانت متخلفة اقتصاديا وتنمويا، فإنه يطرح علينا أكثر من سؤال، نحن الذين راكمنا الإخفاقات ولم نحقق ولو مجرد نجاح يتيم، سواء بعد موجة ثورات 2011 أم بعد موجة ثورات السنين الأخيرة في لبنان والجزائر والسودان.
وقد يكون الوضع السياسي السائد الآن في إيطاليا منذ وصول الفاشيين الجدد إلى الحكم بقيادة جورجيا ميلوني مقدمة لما ستؤول إليه الأوضاع في معظم البلدان الأوروبية، نظرا إلى التزايد المستمر في شعبية أحزاب اليمين المتطرف التي صار يشار إليها باسم ملطّف هو الأحزاب الشعبوية. وربما تكون لقطة واحدة كافية لإدراك مدى خطورة الردة التسلّطية التي أوغلت فيها إيطاليا.
وهذه اللقطة هي قرار إدارة شبكة «راي» التلفزية العمومية منع بث الكلمة التي كان من المقرر أن يلقيها الكاتب أنطونيو سكوراتي الخميس 25 أبريل في إطار إحياء ذكرى إسقاط الحكم الفاشي.
وسكوراتي كاتب ذاع صيته في أوروبا بعد نجاح الرواية التي نشرها عام 2019 عن سيرة موسوليني، بعنوان «ميم. ابن القرن» والتي ترجمت إلى عدة لغات بعد أن نالت جائزة ستريغا، المعادل الإيطالي لجائزة البوكر البريطانية والغونكور الفرنسية. وسبب المنع هو أن سكوراتي كان يعتزم التنديد في كلمته باستمرار الائتلاف اليميني الحاكم في استلهام التاريخ الفاشي واستثمار مبادئه وطروحاته في رسم مستقبل إيطاليا، والتذكير بإمعان اليمين في الإعراض عن تلبية الدعوات المتتالية التي توجهها له بقية التيارات السياسية إلى الالتزام بمبدأ مناهضة
الفاشية، باعتباره الأساس الذي انبنت عليه الجمهورية الإيطالية المعاصرة.
وفي تفسير حادثة المنع الذي أقدمت عليه إدارة التلفزيون العمومي، قال سكوراتي إن الحكومة مصرّة على إعادة كتابة التاريخ وفرض هيمنتها على البلاد بكلّ من سلاحيْ القوة والسياسة، وإن هذه الحادثة تكشف أن تصورها للحكم ليس دكتاتوريا بالتمام والكمال، ولكنه تسلّطي بكل تأكيد، حيث ترمي إلى إقامة ديمقراطية لا-ليبرالية على طريقة فيكتور أوربان في المجر، أي إلى إقامة نظام مناف للديمقراطية الحقيقية.
هذا الشهر زاخر بمناسبات الذكرى. سياسيا، لعل من أهمها ذكرى الغارات الجوية التي شنتها الطائرات النازية والفاشية على بلدة غرنيكا في إقليم الباسك أثناء الحرب الأهلية الإسبانية
وترى حركة «إخوة إيطاليا» التي تتزعمها ميلوني أن طريقة إحياء ذكرى المقاومة ضد الفاشية والنازية يوم 25 أبريل من كل عام إنما هي تكريس للهيمنة الثقافية التي يمارسها اليسار الذي تتهمه بنبذها إلى هامش الحياة السياسية وتعلن في أدبياتها وخطبها عزمها على الثأر منه. وقد تجلى هذا الثأر في تعيين حكومة ميلوني شخصيات موالية لها في أعلى مناصب كبريات المؤسسات الثقافية، وفي إحكام السيطرة على التلفزيون العمومي. وقد أعلنت نقابة صحافيي شبكة «راي» أن حادثة منع بث كلمة سكوراتي ما هي إلا أحدث مؤشر في سلسلة طويلة من المؤشرات على تفاني الإدارة في منع كل تعبير ثقافي غير مَرْضيّ لدى الحكومة.
ومما كتبه سكوراتي في النص الممنوع من البث، والذي صار متاحا الآن على الإنترنت، أن «ربيعنا الزائف» هذا يوجب استذكار حدثين مأساويين لأنه يصادف ذكرى المذابح التي ارتكبتها القوات النازية بمساندة القوات الفاشية وأسفرت عام 1944 عن مقتل آلاف من المدنيين الإيطاليين كان بينهم مئات من الأطفال والرضع الذين قطعت رؤوسهم بدم بارد أو حرّقوا أحياء.
أما الذكرى الأخرى فهي مئوية اغتيال السياسي اليساري جاكومو ماتيوتي طعنا بالسكاكين قبل التمثيل بجثته. ولاستكمال الصورة يذكر سكوراتي هذا التفصيل: لقد أثقل موسوليني جريمته بوزر الخزي الشائن عندما أقسم لزوجة ماتيوتي بأنه لن يدخر جهدا في العثور عليه وإعادته إليها. أقسم بعد أن أودع في درج مكتبه وثائق القتيل الملطخة بالدم.