تشترك ثلاث مفردات أو كلمات في المعنى العام والدلالة، وتنطوي، من حيث الجوهر،
على اختلافات عديدة، وغالبا ما يحصل الالتباس لدى مستعمليها حين يوظفونها في
كتاباتهم أو يعتمدونها في أحاديثهم، إنها تحديدا: العيش المشترك، والمشترك
الإنساني، والمؤتلف الإنساني. فالخيط الناظم بينها جميعا، إشارتها إلى المجتمع الإنساني،
وما ينبغي أن يجمع أفراده وجماعاته من أواصر التقارب، والتضامن، والتآزر من أجل
العيش والبقاء. بيد أن الاختلاف بين المفردات الثلاث يكمن في درجة عمق هذا الرابط
المشترك، أو الخيط الناظم، وطبيعة العلاقات الجماعية المترتبة عنه، حيث يكون أكثر
قوة في المشترك الإنساني والمؤتلف الإنساني، منه في العيش المشترك.
يُذكرنا التاريخ أن مصطلح العيش المشترك برز بقوة مع العقود الأولى من
ميلاد الدولة القومية الحديثة، وبداية تشكل النظريات الاجتماعية المفسرة للانعطاف
الوعي الذي شهدته أوروبا مع القرنين السادس عشر والسابع عشر، والذي قاد مجتمعاتها
نحو ما سمي بـ"النهضة". ففلسفة
العقد الاجتماعي، على سبيل المثال، اعتمدت
كتابات رموزها (هوبز ولوك وروسو) مفهوم "العيش المشترك"، وضرورات
الاستمرارية والبقاء لإقناع الناس بصلاحية مشروعها الفكري ودعوتها إلى إعادة بناء
الدولة والسلطة على أسس جديدة تقطع مع ما كان سائدا من قبل. وقد استمر فلاسفة
آخرون جاءوا بعدهم في الاتجاه نفسه، وحافظ المفهوم على جاذبيته الفكرية والسياسية
قرونا من بعد، حيث تضمنته متون الكتابات القانونية والفقهية مع بداية القرن
العشرين، فنعثر عليها بوضوح في نظريات "ليون ديجي"، و"كاري
دوملبرغ"، و"موريس هوريو"، و" ج. بيردو" لاحقا.
لم يصمد مفهوم "العيش المشترك" كثيرا، وإن أنجز وظائفه باقتدار، إذ سرعان ما أصبح عُرضة للتساؤل والنقد والاعتراض. والحال، أن الدولة نفسها شهدت سلسلة من الأزمات، منذ العقد الثالث من القرن العشرين، حيث اهتزت مجمل التوازنات التي أُسست عليها الدولة الحديثة، لا سيما من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. وتصاعدت المطالبات بإعادة صياغة مفهوم جديد لما سمي "لعيش المشترك"، خصوصا وأن الفجوات الاجتماعية والأزمات السياسية، واستفحال الحروب داخل الدول وفي ما بينها، أصبحت مظاهر لافتة للانتباه
أما الوظيفة التي أداها مفهوم " العيش المشترك" خلال كل هذه
الحقبة الطويلة، فتجلت في المساعدة على ترسيخ بناء الدولة الحديثة، من خلال الدعوة
إلى ضرورة أن تكون المجتمعات متضامنة ومتماسكة، ومدينة بالولاء للدولة، بحسبها
كيانا لضمان العيش المشترك.
لم يصمد مفهوم "العيش المشترك" كثيرا، وإن أنجز وظائفه باقتدار، إذ
سرعان ما أصبح عُرضة للتساؤل والنقد والاعتراض. والحال، أن الدولة نفسها شهدت
سلسلة من الأزمات، منذ العقد الثالث من القرن العشرين، حيث اهتزت مجمل التوازنات
التي أُسست عليها الدولة الحديثة، لا سيما من الناحيتين الاجتماعية والسياسية. وتصاعدت
المطالبات بإعادة صياغة مفهوم جديد لما سمي "لعيش المشترك"، خصوصا وأن الفجوات
الاجتماعية والأزمات السياسية، واستفحال الحروب داخل الدول وفي ما بينها، أصبحت
مظاهر لافتة للانتباه، مع الحرب الكونية الأولى، وما أعقبتها من أزمات اقتصادية ومالية
في مجمل الأقطار الأوروبية. فما كان مشتركا فرّقته الاختلالات التي طالت أبنية المجتمعات
الأوروبية والغربية عموما، كما أن الاقتناع بوجود روح جماعية تربط الناس وتعضد
أواصرهم، لم يعد مجديا ولا مقنعا. والواقع أنه انعطاف لم يقتصر على الأوطان
داخليا، بل شمل أيضا، وبشكل أكثر، العلاقات بين الدول، يكفي أن نُشير إلى أن الحرب
العالمية الأولى حصدت عشرات الملايين من القتلى المدنيين والعسكريين، وما يوازيها
من الجرحى والمعطوبين والمفقودين.
كان الرهان كبيرا على أن يلعب التنظيم الدولي الجديد الذي أعقب الحرب
الكونية الثانية أدوارا مركزية في التقريب بين الشعوب والأمم، وأن يُعطي معنى
جديدا للمشترك بين الناس، الذي أصبح يُنعت بـ"المشترك الإنساني"، على
اعتبار أن البشرية تشترك في الكثير، وهي مطالبة بأن تسعى إلى تحقيق ما يُجسد هذا
المشترك؛ في الاقتصاد، واقتسام الخيرات، وفي القيم والثقافة، وفي السياسة
والمحافظة على البيئة السليمة لكوكب الأرض، إلا أن التعثر كان واضحا في كل هذه
الأبعاد، على الرغم من كل الجهود التي بُذلت على امتداد قرابة ثمانين سنة على
تأسيس الأمم المتحدة..
ولعل المتمعن في المتوفر من الأرقام عن حالة العالم اليوم يشعر بالخجل
وخيبة الأمل في ما اقترفه القيمون على البشرية من أفعال، حيث تتحكم أقلية محدودة
في معظم ثروات العالم، وتعيش نسب مرتفعة تحت عتبة الفقر، ويتزايد باضطراد عدد
المشردين، والنازحين من ديارهم بغير حق، وتفتك الأمراض بملايين الناس، ومظاهر ضعف
العدالة الاجتماعية، وسوء توزيع الخيرات والثروات في العالم وداخل الأوطان متعددة
وكثيرة جدا.
لم يُدرك أنصار مفهوم "المشترك الإنساني" مقاصدهم؛ على أهميتها النبيلة
من الناحيتين القيمية والأخلاقية، فقد استمرت آلة الحروب والصراعات والنزاعات
الدولية تضغط بكلكلها على غيرها من الاختيارات الراشدة والعاقلة في حياة الناس،
ولهول المتاهات التي دخلتها البشرية، تناسلت الدعوات،
للمؤتلف الإنساني أبعاد عديدة، تتعلق بالقيم والأخلاق، والبعد القانوني، والوطني والثقافي والاجتماعي، والجيواسترتيجي، ثم إن عماده ومناطه الحوار والمسؤولية
وتسارعت أصوات المنادين إلى
التنبيه إلى خطورة المرحلة الجديدة التي دخلها العالم من زوايا القيم والأخلاق، ومآلات
الأزمات التي شقت نسيج الأوطان، واستقرار العالم، فظهرت مفردة جديدة، تروم هي
الأخرى تأسيس أفهام جديدة للعالم، ولما يجب أن تكون رؤيتنا له، إنه مفهوم "المؤتلف
الإنساني"، الذي كان للراحل السلطان قابوس، سبق الإعلان عنه في وثيقة رسمية
منذ سنوات.
تنهض فلسفة "المؤتلف الإنساني" على فكرة جوهرية قوامها أن "البشرية
موحدة على اختلاف الأديان والإثنيات والأمم والشعوب والدول، وعلى تساوي بني
الإنسان في القيمة والحقوق والواجبات والمسؤولية، وعلى حق كل فرد منهم في الحياة
الحرة والكريمة والآمنة ولمكتفية، وعلى حقه في ضمانات الحياة لأسرية والوطنية والعالمية..".
وللمؤتلف الإنساني أبعاد عديدة، تتعلق بالقيم والأخلاق، والبعد القانوني، والوطني
والثقافي والاجتماعي، والجيواسترتيجي، ثم إن عماده ومناطه الحوار والمسؤولية.
لا تُقنع أحداث العالم ووقائعه مرة أخرى أن ثمة أفقا لإمكانية إعمال مفهوم "المؤتلف
الإنساني" في حياة الناس وعلاقات الدول، فالعالم ما زال بعيدا عن روح هذا
المفهوم، بل إن من ينظر إلى ما يجري في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
2023، يخجل من نفسه، ويتساءل عن جدوى انتسابه إلى هذا العالم.