قضايا وآراء

من هو المثقَّف (1-2)

عبد الرحمن أبو ذكري
هل المثقف هو القارئ والمتعلم؟ الأناضول
هل المثقف هو القارئ والمتعلم؟ الأناضول
نسمع كثيرا بهجرات "المثقَّفين" المسلمين من أقطارِهم، حتى اعتبرها بعضهم دينا يدينُ به لله؛ إذ "يَفِرُّ بدينه" من الجور! بيد أن هؤلاء المهاجرين ليسوا مُثقفين حقيقيين، وإنما هُم "أشباه مثقفين"؛ لا يعرِفون ماهية "المثقَّف الحديث" ومسؤوليته، ودع عنك معرفة مهام الداعية إلى الله وطبيعتها. ومن ثم، فلكي نستطيع الإجابة عن "السؤال البحثي" لموضوعنا هذا؛ لا بُد لنا أولا من تعريف "المثقَّف الحداثي" ووصف وظيفته، وبيان أصول هذه الوظيفة وطبيعتها. فكما يقول علي شريعتي رحمه الله تعالى: "ما لم يعرف المرء نفسه، وما لم يعرف المثقَّف نفسه؛ فلن تتيسَّر له معرفة مجتمعه، ولن يستطيع النهوض بالرسالة التي يدَّعيها لنفسه، أي إنه على المثقف أن يعرف أية خصائص تُمیزه، وفي أية ظروف تاريخية واجتماعية نشأ، وإلی أین تمُد خصائصه هذه جذورها".

فإن هذه المعرفة هي المقدمة الطبيعية لاضطلاع المثقف بأعظم مسؤولياته في مجتمعه؛ أي إن يعثُر على السبب الأساس والحقيقي لانحطاط ذلك المجتمع وركوده ومعاناته. ثم يعمد بعد ذلك إلى تنبيه مجتمعه الغافل إلى سبب حاله المشهود وقدره التاريخي المشؤوم. ويُبين له الحل والغاية، ويُعيِّن أسلوب السير الصحيح، اللازم للحركة المفضية إلى التخلُّص من وضعه المزري.

ثمَّة عُنصر أوَّلي، يتعيَّن توفُّره في المشتَغِل بالفكر؛ حتى يجوز عندنا توصيفه بالمثقَّف، وهو: حُسن تمييزه للأرضية التي يقف عليها، ودقَّة معرفته بالبيئة التي يتحرَّك فيها، وتمام إدراكه للمشكلات التي يُعانيها مجتمعه، ومقدرته على تشخيصها تشخيصا دقيقا، وأخيرا امتلاكه رؤية كُليَّة تؤهله لصياغة حلول ومخارِج آجلة وعاجلة

فالمثقف إنسان بصير، يَخلُص إلى الحلول اللازمة انطلاقا من إمكانات مجتمعه واحتياجاته وآلامه، وبناء على الموارد التي يحوزها. وهو ينهضُ بكل هذا على أساسٍ من رؤية واضحة، تنبني على حُسن توظيف الموارد، ودقة المعرفة بالآلام، والكشف البصير للصلات الحقيقية بين أنواع الانحرافات والأمراض وأسبابها ونتائجها، والعوامل الداخلية والخارجيَّة. وبعدها، ينقل المثقَّف المسؤولية، التي استشعرها محصورة في "طائفة المثقفين" المحدودة؛ إلى السواد الأعظم من مجتمعه. ويُبرِزُ التناقُضات الاجتماعية المشهودَة في قلب هذا المجتمع، حتى يتأجَّج بها وعي الناس وشعورهم.

وبناء على إجمال مسؤوليته، سنشرع -من ثم- في تعريفنا للمثقَّف بالنفي؛ أي نفي ما لا يمكن أن يكونه هذا المثقَّف، قبل إثبات ما ينبغي أن يكونه. فالمثقف ليس كل من يضطلع بعمل عقلي أو وظيفة ذهنيَّة أو نشاط فكري، ولا كل واسع الاطلاع على جديد الكُتب وقديمه؛ فليس المعلمون وأساتذة الجامعات، والقُضاة والمحامون، والفنانون والمترجمون، والكتَّاب والصحفيون -وأشباههم- داخلون بالضرورة تحت هذا التوصيف؛ إذ ثمَّة عُنصر أوَّلي، يتعيَّن توفُّره في المشتَغِل بالفكر؛ حتى يجوز عندنا توصيفه بالمثقَّف، وهو: حُسن تمييزه للأرضية التي يقف عليها، ودقَّة معرفته بالبيئة التي يتحرَّك فيها، وتمام إدراكه للمشكلات التي يُعانيها مجتمعه، ومقدرته على تشخيصها تشخيصا دقيقا، وأخيرا امتلاكه رؤية كُليَّة تؤهله لصياغة حلول ومخارِج آجلة وعاجلة.

وكما يذهب شريعتي، فإن من تُطرَح أمامه إشكالات مجتمعه لكنه لا يفهمها، ولا يُدرِك حجم مساسها بحياته وحياة قومه؛ فهو ليس مُثقفا بالمرَّة، وإن كان من "العلماء" المشتَغلين بأدق الدقيق من الأعمال الذهنيَّة، ومن أشد القُراء نهما وأحسنهم اطلاعا على ثمرات القرائح. إذ المثقَّف ابن المسؤولية في المقام الأول، وهو فاعِلٌ واع مسؤول؛ فليست الأدوات هي التي تصنعه، وإنما تصنعه روحه وشعوره والتزامه بقضايا مُجتمعه. وإن الذي تُطرَح أمامه مشكلات تمس مجتمعه، فيعجز عن فهمها، وعن إدراك حجم تماسها مع حياته؛ فيرى أنها ليست من شأنه -وهي صلب شأنه!- فمثله ليس مُثقَّفا بالمرة.

المثقَّف ليس هو المشتَغِل اشتغالا نظريّ عامّا بالأمور الفكريَّة والعقديَّة والفنيَّة والأدبيَّة.. إلخ، وإنما هو المشتَغِلُ بهذه الأمور انطلاقا من وعيه بحاجات مجتمعه، ونهوضه لتلبيه بعض هذه الاحتياجات. وقد يكون المشتَغِلُ اشتغالا نظريّا مُجرَّد "خبير" في باب، بيد أنه ليس مُثقفا ثقافة عامل يدوي أو فلاح؛ قد انشغل انشغالا حقيقيّا بقضايا مجتمعه

وعليه، فلا يمكن أن يوجد من يتسمَّى بالمثقف ذي العالم الخاص -كما يذهب إدوارد سعيد- لأنه بمجرَّد أن يخط المثقف كلماته على الورق وينشُرها، أو يُلقي بها على الأسماع؛ حتى يدخُل إلى المجال العام. كما أنه لا يوجد ما يمكن أن يُسمَّى بمثقف المجال العام فقط، أي المثقف الذي ينحصر دوره في كونه رمزا، أو مُتحدثا باسم قضية أو حركة تكون علما ووقفا عليه؛ إذ دائما ما نلمح تأثير الجانب الشخصي والحساسية الفردية الخاصة، وهما العاملان اللذان يُضفيان المعنى (والروح) على ما يقول المثقف وما يكتب. وإنما المثقف كيان إنساني مرهف، اختلط فيه العام بالخاص، وتفتَّقت إدراكاته من رحم مسؤولياته؛ فهي تشحذ وجوده وتحدوه في كل حين.

لهذا، فالمثقَّف ليس هو المشتَغِل اشتغالا نظريّ عامّا بالأمور الفكريَّة والعقديَّة والفنيَّة والأدبيَّة.. إلخ، وإنما هو المشتَغِلُ بهذه الأمور انطلاقا من وعيه بحاجات مجتمعه، ونهوضه لتلبيه بعض هذه الاحتياجات. وقد يكون المشتَغِلُ اشتغالا نظريّا مُجرَّد "خبير" في باب، بيد أنه ليس مُثقفا ثقافة عامل يدوي أو فلاح؛ قد انشغل انشغالا حقيقيّا بقضايا مجتمعه. ونحن في ذلك نوافق شريعتي رحمه الله، إذ يُقرر أن المثقف ليس من نال شهادة عُليا يُزاول بها عملا ذهنيّا في مجتمعه، فإن من درس في جامعة وطنيَّة (أو غربيَّة)، وتخصَّص في فرع من "المعارِف النظريَّة"؛ يصير خبيرا في هذا الفرع، وقصارى ما يُمكنه تقديمه هو تدريس ما حصَّل لطُلَّابه. أما أن يصير هذا الأكاديمي نفسه "مُثقفا" حقيقيّا؛ فهذا أمر يتجاوز تحصيله بمراحل كثيرة، إذ يترعرع به وعيه واستشعاره لمسؤوليته الاجتماعيَّة، التي تُملي عليه الحركة بمعارفه في داخل مجتمعه حركة غائيَّة؛ تُخرِج المجتمع من سكونه وخموله، وتُعيده إلى مساره الصحيح سالكا إلى الله.

وهو ما يُبينه شريعتي، إذ يُقرر أن من الخطل أن نتوهُّم أن الطالب الذي ذهب إلى أوروبا وأمريكا، وتعرَّف على التيارات الاجتماعية، والمدارس السياسية، والأيديولوجيات الفلسفية، ثم عاد؛ قد صار مثقفا. فهذا الشخص قد دَرَسَ مذاهب المفكرين والفلاسفة، وهي كلها في جوهرها أيديولوجيات اجتماعية؛ اضطلعت بدور محدَّد للوصول إلى غاياتٍ مُعيَّنة في مجتمعاتها. وقد اضطلع مُثقفو القرون الثلاثة الأخيرة بالتغيير على قاعدة من هذه الأيديولوجیات. لكنَّ من دَرَسَها، على النحو الذي يدرُس به زملاؤه الطب، ليصيروا أطباء؛ قد صار مُشتغلا بهذه "العلوم الاجتماعية" وتاريخها ومدارسها وأيديولوجياتها، ويستطيع أن يُدَرِّسها في الجامعة.

طبقة المثقفين لا تتشكَّل بدراسة بعض الكتب، ولا نتيجة للدعاية أو الإذاعة، أو الصحف أو الترجمة، أو الخطابة أو المحاضرات؛ وإنما تتشكل نتيجة ظروف عينية واقعية واحتياجات حقيقية، يؤرق نقصانها المجتمع -الذي تظهر فيه هذه الطبقة- فينفر بعض أفراده للاضطلاع بفروض الكفايات فيه

بيد أن مثله لا يستطيع -لمجرَّد أنه يُدَرِّس هذه الأيديولوجيات- الاضطلاع بدور خاص في مجتمعه، أو تحمُّل مسؤولية المثقف؛ فيفتح للمجتمع أبواب الوعي والإيمان، ويُحلِّل أمراضه النفسية والاجتماعية، ويَبُثُّ من روحه في الناس، ويُعيِّن لهم أهدافهم العُليا ومُثُلهم المشتركة. إن الإنسان لا يستطيع تحريك مجتمعه بمجرد دراسة هذه المذاهب وفهمها؛ إذ إنه يُمسي دارسا مُتخصصا حافظا لتفاصيلها النظرية والتاريخية فحسب، ويستطيع أن يُدَرِّسها حيثما شاء. وبناء عليه؛ فلا يوجد نمط عالمي ثابت للمثقف، بل يوجد مثقَّفون تتغيَّر ملامحهم بتغيُّر بيئاتهم وغاياتهم. ويمكن أن يُقال إنَّ فلانا مثقَّفٌ في شؤون أفريقيا السوداء -مثلا-، لكنَّه مع ذلك لا يصلُح لشيء متى انتقل إلى مُجتمع إسلامي؛ إذ يُمسي غريبا مشلولا، ولا يعود مُثقفا بحال. وعلى النحو نفسه، فإذا أخذنا مُثقفا من أوروبا أو أمريكا، ونقلناه إلى الهند؛ فلن يعود مُثقفا، ولن يستطيع الاضطلاع بدور المثقف في هذا المجتمع، مع أنه قد يكون مثقفا حقيقيّا في مجتمعه، ونابغة ذا أثر فعَّال في بنائه. والأمثلة على ذلك كثيرة متواترة.

وهذا سبب استحالة ظهور المثقَّف الحقيقي عن طريق الترجمة والنسخ والتقليد. فقد ينشأ عن طريق هذه الأدوات متعلمٌ، أو طبيبٌ، أو معماري؛ لكن لن ينشأ مثقف. فإن المثقف إنسانٌ يُدرك الوجود إدراكا فيه جدَّة، ويفكر في أموره من زاوية مغايرة، حتى إن كان غير مُتعلم أو لم يعرف الفلسفة؛ فلا فارق. وما من أهميَّة لانعدام تلقيه مؤهلا "رسميا" في الفقه أو الكيمياء أو التاريخ، أو الأدب أو الهندسة أو الاجتماع؛ فإن الأهم هو أن يشعر بعصره، ويفهم مجتمعه، ويُدرك مسؤوليته؛ فيصير مستعدا لكل تضحية يتطلَّبها الاضطلاع بهذه المسؤولية. وعليه؛ فإن طبقة المثقفين لا تتشكَّل بدراسة بعض الكتب، ولا نتيجة للدعاية أو الإذاعة، أو الصحف أو الترجمة، أو الخطابة أو المحاضرات؛ وإنما تتشكل نتيجة ظروف عينية واقعية واحتياجات حقيقية، يؤرق نقصانها المجتمع -الذي تظهر فيه هذه الطبقة- فينفر بعض أفراده للاضطلاع بفروض الكفايات فيه.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)