صحافة دولية

فيلم وثائقي يفضح أسطورة تأسيس إسرائيل.. ومخرجه يرفض حق العودة

الطنطورة واحدة من مئات القرى التي طرد منها ما يزيد عن سبعمائة ألف فلسطيني من ديارهم
الطنطورة واحدة من مئات القرى التي طرد منها ما يزيد عن سبعمائة ألف فلسطيني من ديارهم
لا زال فيلم "الطنطورة" الذي أخرجه المخرج الإسرائيلي آلون شوارز يحظى بتغطية صحفية، نظرا للتفاصيل المرعبة التي يوثقها الفليم لمذبحة ضد الفلسطينيين لطالما أنكرتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

لكن تقرير موقع "ميدل إيست آي" يأخذنا إلى زاوية أخرى مهمة، وهي أثر هذا الفيلم على تحقيق العدالة للفلسطينيين وعلى تحقيق حق العودة لهم.

لكن التقرير يكشف أنه رغم كل الجهود التي بذلها المخرج الإسرائيلي آلون شوارز لكشف الحقائق عن هذه المذبحة، إلا أنه نفسه أسير السردية الإسرائيلية ويرفض مبدأ تحقيق العدالة للفلسطينيين كما يرفض مفهوم حق العودة.

ويورد التقرير إجابة صادمة لمخرج الفيلم على سؤال: "لماذا لا يقول إن من حق الفلسطينيين العودة إلى وطنهم؟" فأجاب: "سوف نموت ونقتل كل الآخرين قبل أن يحدث ذلك... هذا هو التركيب الوراثي لإسرائيل. وأنا أعرف هذا التركيب الوراثي لأنني جزء منه. ولذلك من اللطيف أن يسأل المرء لماذا لا تريدون عودة الفلسطينيين؟ نحن لا نريد عودتهم لأنها سوف تهدد حياتنا. هكذا نرى الأمر".

وفي ما يلي نص التقرير:

قبل ربع قرن كان طالب إسرائيلي في الدراسات العليا يبحث في آثار النكبة على عدد من القرى القريبة من حيفا، فوجد نفسه يتحدث مع محاربين إسرائيليين قدامى يتكلمون بالتفصيل بأريحية عن دورهم في إحدى المجازر.

وضمن سعيه للتنقيب عن حقيقة ما حدث في الطنطورة في أيار/ مايو من عام 1948، أجرى تيدي كاتز مقابلات مع ما يقرب من 135 شخصاً، من الفلسطينيين والإسرائيليين، وجمع منهم شهادات تصل إلى 140 ساعة مسجلة، لاستخدامها في إعداد أطروحته في جامعة حيفا.

احتوت أطروحته على تفاصيل مجزرة نفذها في القرية بعد سقوطها لواء ألكسندروني، وهو واحد من العديد من الألوية التي أسستها المنظمة الصهيونية شبه العسكرية والمعروفة باسم الهاغاناه، ذبح فيها حوالي 250 فلسطينياً.

خلص كاتز من خلال ما جمعه من شهادات شخصية وتقارير شهود العيان إلى أن الجنود الإسرائيليين تخلصوا من جثث الفلسطينيين المذبوحين بدفنها في قبور جماعية. طبعت أطروحته في عام 1998 وحصلت حينذاك على تقييمات أكاديمية معتبرة.

عثر أحد الصحفيين على الأطروحة في كانون الثاني/ يناير من عام 2000 ونشر مقتطفات منها في صحيفة معاريف الإسرائيلية، مما تسبب في إثارة موجة من الإنكار والسخط على نطاق واسع.

تعرض كاتز للاتهام من قبل من أجرى معهم المقابلات بأنه حرف رواياتهم، وقاضوه بتهمة التشهير. وجد كاتز نفسه يتراجع عما توصل إليه من نتائج. ولكنه عاد بعد أيام ليقول أمام المحكمة إنه إنما فعل ذلك تحت وطأة الضغط وأنه يرغب في الدفاع عن بحثه وعما توصل إليه من نتائج. لكن المحكمة لم تستجب له وتم إغلاق ملف القضية.

أبطلت الجامعة شهادته وما لبث كاتز أن طواه النسيان. خسر صحته، ولكنه احتفظ بالأشرطة المسجلة. ومؤخراً ظهر كاتز في فيلم وثائقي جديد ومثير يسمى الطنطورة من أعمال المخرج الإسرائيلي آلون شوارز.

في البداية كان شوارز يعمل في إخراج فيلم وثائقي مختلف حول نشطاء حقوق الإنسان في المنظمات الإسرائيلية غير الحكومية المعارضة للاحتلال، وأثناء ذلك تعرف على كاتز، ثم قرر الاستماع إلى الشهادات الشخصية حول جرائم القتل والتدمير التي ارتكبها أعضاء المليشيا الصهيونية، والذين سجل كاتز شهاداتهم.

من بين المقابلات التي لا بد أنه استمع إليها شهادة لأحد جنود ميليشيا أليكسندروني شارك في الهجوم على الطنطورة، قال فيها: "بعض هؤلاء الجنود الشباب كما أتذكر – وهو شيء ليس لطيفاً ذكره – وضعوا القرويين الفلسطينيين في برميل وأطلقوا النار على البرميل، وأتذكر الدم داخل البرميل".

فقرر شوارز التركيز على الطنطورة بدلاً من القضية التي بدأ عمله فيها.

"لا أتذكر"

فراح يبحث عن المقاتلين القدامى الذين ما زالوا على قيد الحياة – وقد باتوا الآن في الثمانينيات أو التسعينيات من العمر – ليتحدث معهم حول أحداث عام 1948، والتي تسميها إسرائيل "حرب الاستقلال"، بينما يصفها الفلسطينيون بالنكبة.

يصف رجال المليشيا السابقون المذبحة بأنها "إشاعة" وبأنها "أسطورة"، بل يكرر أحدهم القول إنه "لم يكن هناك أي مذبحة".

كما يتحدث شوارز مع العديد من النساء اليهوديات اللواتي نزلن في الطنطورة واتخذن فيها بيوتاً لهن في حزيران/ يونيو 1948، وراح يسألهن عن الحكايات التي يتذكرن سماعها. لم تكن النتيجة إعادة سرد للأحداث التي وقعت في الطنطورة، وإنما مأثرة عظيمة وغير عادية من الإنكار والطمس الذي يشكل الأساس الذي تقوم عليه الدولة الإسرائيلية.

يقول كاتز في الفيلم: "حتى هذا اليوم، ما يزال جل ما جرى في عام 1948 ليس فقط طي الكتمان وإنما مطموس تماماً. وجدت سبعة أشخاص من اليهود قالوا إنه كانت هناك مجزرة في الطنطورة، ولكن فيما بعد تراجعوا جميعاً عن تصريحاتهم ونفوا وقوع المجزرة".

في أحد المشاهد في الطنطورة، يقابل شوارز غافرييل كوفمان، وهو جندي سابق من لواء أليكساندروني، ويشغل أمامه التسجيل الصوتي لجندي آخر كان في المليشيا وهو يحدث كاتز عن قائد إحدى السرايا الذي "أطلق النار على العرب واحداً تلو الآخر من بندقيته لأنهم لم يسلموا أسلحتهم. قتلهم واحداً تلو الآخر ببندقيته البرابيلام".

إلا أن كوفمان يتدخل لينكر وقوع هذا الأمر قائلاً: "لا أدري ماذا أقول. لا أتذكر، لعلي رأيت، ولكني لا أتذكر. نحن لسنا كذلك. إطلاق النار على الرأس من البرابيلام، ذلك بالضبط ما فعله النازيون. لا أصدق أن ذلك قد حدث."

الكشف عن الحقيقة

مع استمرار المقابلات، يستمر شوارز في السبر والنخز بلطف، دون أي تعنيف لهؤلاء المسنين – الذين يصمت كثير منهم للحظات أثناء الحديث، ثم يضحكون بعصبية، ويناقض بعضهم بعضاً.

ثم يبدأ الإنكار في التراجع لصالح الكشف عن الحقيقة، ويدرك شوارز أثناء ذلك أنه كمن يجلس على لغم متفجر من الأسرار، وهنا ينطلق الفيلم ويحلق في الآفاق.

يبدأ شوارز في إجراء أبحاث بنفسه. فيلجأ إلى الخرائط القديمة، ويجري مقابلات مع مؤرخين كانوا قد ساندوا كاتز، مثل إيلان بابيه، ويتحدث مع بعض من تعرضوا له بالذم والنقد مثل أستاذ التاريخ يوآف غيلبر، والذين ظلوا صامدين مصرين على إنكارهم لمذبحة الطنطورة، ثم يكتشف أن دورا بيلبل، القاضي الذي ترأس المحكمة التي نظرت في قضية التشهير ضد كاتز، لم يكلف نفسه مؤونة الاستماع إلى الأشرطة قبل أن يأمر بإغلاق ملف القضية.

كما يستخدم شوارز صوراً ملتقطة بواسطة الأقمار الصناعية ليثبت وجود قبر جماعي سابق في الطنطورة، حيث يقول الفلسطينيون إن الصهاينة دفنوا الموتى بعد المذبحة.

في واحدة من التسجيلات التي استخرجها شوارز، يتحدث إلى كاتز شخص اسمه أحمد صالح، وهو فلسطيني ينحدر أصلاً من الطنطورة، ويقول له: "لقد قتلوا الكثير من الناس بعد أن أخرجوهم من بيوتهم عنوة وهم في ملابس النوم. لقد ساقوهم أمامهم مثل البقر وقتلوهم الواحد تلو الآخر."

الجثث "متناثرة مثل القمامة"

يصبح جلياً عند نقطة معينة أن شوارز لم يعد يتعامل مع المذبحة باعتبارها حدثاً محتملاً، بل تصبح حقيقة ماثلة للعيان، تنفيذاً للأوامر الصادرة عن بن غوريون الذي كان يترأس قوات الهاغاناه شبه العسكرية، بهدف إجبار الفلسطينيين على إخلاء قراهم.

هناك تقارير تؤكد أن مقاتلي أليكساندروني صفوا السكان وقتلوهم رمياً بالرصاص. ويفيد أحد التقارير باغتصاب فتاة فلسطينية واحدة على الأقل وقتل عمها الذي وقف مدافعاً عنها. وتقول بعض التقارير إن الجنود فتحوا النار بشكل عشوائي على الفلسطينيين، أو طاردوهم براجمات اللهب، وبأنهم أحرقوهم أحياء بعد أن حبسوهم داخل أقفاص.

في حديثه مع شوارز، يقول أحد المقاتلين السابقين بشاربه الذي يشبه شارب ستالين إنه لا يتذكر كم عدد الفلسطينيين الذين قتلهم بنفسه: "لم أحصهم. لا يمكنني في الواقع أن أعرف. كان لدي مدفع رشاش فيه 250 طلقة."

ويقول ياكوف هاليلي، المقاتل السابق في لواء أليكساندروني: "كانت جثثهم متناثرة كالقمامة في الطرقات وفي الممرات وبين البيوت."

في مقابلة مع موقع "ميدل إيست آي" في مدينة نيويورك، قال شوارز إن معظم الإسرائيليين في الواقع لم يكونوا على معرفة بتفاصيل ولادة البلد في عام 1948. ويضيف شوارز: "معظم الإسرائيليين لا يعرفون ما الذي حدث في 1948. معظم الإسرائيليين يصدقون الحكاية الساذجة التي تقول إن الفلسطينيين هربوا في 1948 بمحض اختيارهم ... لمجرد أن زعماءهم طلبوا منهم ذلك."

ويقول أيضاً: "لا يعرفون أن المليشيات الصهيونية التي تشكل منها الجيش الإسرائيلي اجتاحت القرى الواحدة تلو الأخرى وأخرجت الناس عنوة من ديارهم، بل وفي بعض الأوقات ارتكبت جرائم حرب، مثل مذبحة الطنطورة. هذا ما لا يتم تعليمه للتلاميذ في المدارس."

حق العودة

يشكل فيلم الطنطورة الذي أخرجه شوارز مأثرة عظيمة من شأنها أن تكمل الصورة، حيث يتضح بجلاء كيف أن المليشيا الصهيونية التي ساعدت في تأسيس إسرائيل من خلال أعمال التطهير العرقي يجد أفرادها صعوبة بالغة مفعمة بالتناقض في تعاملهم مع مسألة الولاء لدولتهم الصهيونية المحبوبة.

إلا أن الفيلم بمجرد أن يصل ذروته – التي يصبح عندها واضحاً بما يكفي أن الطنطورة كانت جزءاً من عملية الطمس الأكبر لما وقع من أحداث في النكبة – يضل الفيلم طريقه.

فبعد أن يثبت أن إسرائيل قامت على مجموعة من الأساطير الأساسية وعلى ارتكاب مذابح جماعية وإخراج جماعي للفلسطينيين من ديارهم، ومن ثم طمس آثار تلك الجرائم والتستر عليها، يقترح شوارز أن حل ذلك اللغز يتطلب من إسرائيل أن تناقش بانفتاح تاريخها وبشكل يتناسب مع كونها منظومة ديمقراطية، على غرار الدول الاستيطانية الأخرى مثل الولايات المتحدة وأستراليا.

بل يذهب إلى حد سؤال بعض من أجرى مقابلات معهم من الإسرائيليين ما إذا كانوا يرون أنه آن للطنطورة أن يقام فيها نصب تذكاري.

ولكن الفلسطينيين الذين أخرجوا عنوة من قراهم في فلسطين لا يريدون نصباً تذكارياً، ولا يُعنى الفلسطينيون بأن يبدأ الإسرائيليون حفلات عشائهم أو مؤتمراتهم الأكاديمية بالإقرار باستيلائهم على الأرض بالقوة.

يريد الفلسطينيون العودة إلى ديارهم. ولذا سألت شوارز لماذا لا يقول إن من حق الفلسطينيين العودة إلى وطنهم؟

فأجاب: "إن من السذاجة البالغة الاعتقاد بأن الإسرائيليين سوف يتخلون عن هذا. لن يفعلوا ذلك. ليس خلال الخمسين أو المائة سنة القادمة. يحتاج الإسرائيليون واليهود إلى زاوية صغيرة في هذا العالم يعيشون فيها بأمان. ولن نتخلى عن ذلك. لن يحدث ذلك."

وأضاف: "سوف نموت ونقتل كل الآخرين قبل أن يحدث ذلك ... هذا هو التركيب الوراثي لإسرائيل. وأنا أعرف هذا التركيب الوراثي لأنني جزء منه. ولذلك من اللطيف أن يسأل المرء لماذا لا تريدون عودة الفلسطينيين؟ نحن لا نريد عودتهم لأنها سوف تهدد حياتنا. هكذا نرى الأمر."

بعد مرور سبعة عقود

وهنا تكمن مأساة الفيلم. فبينما كان من الممكن للطنطورة أن يشكل باباً يمكن من خلاله فتح النقاش حول مسألة العدالة ورد الاعتبار، يظل شوارز محدوداً باعتقاده الجازم بأن الصهيونية شيء جيد وضروري بالنسبة لليهود.

وعن ذلك يقول: "الصهيونية بالنسبة للإسرائيليين هي الجوهر، فهي التي أعادتهم من أمة حُملت في القطارات ووضعت داخل أفران الغاز إلى أمة يمكن أن تعيش بأمان في بقعة خاصة بها في هذا العالم. أما بالنسبة للفلسطينيين، فالصهيونية كلمة سيئة، لأنها تمثل الناس الذين طردوهم وأخرجوهم من ديارهم."

ومن هنا تأتي معاناة الفيلم.

فهنا لدينا مخرج فيلم بذل جهداً جباراً لفضح كيف قام المجتمع الإسرائيلي، بدعم كامل من القطاع الأكاديمي ومن الحكومة ومن القوات المسلحة، بعملية طمس منتظمة لتاريخ السكان الأصليين من خلال ابتداع أسطورة خارقة حول إسرائيل، ومع ذلك فهو عاجز عن تخليص نفسه من براثن تلك السردية، الأمر الذي يثبت بلا أدنى شك مدى قوة تلك الأسطورة.

وأظن أن ذلك ليس بسبب عدم المحاولة، فمعروف عن شوارز أنه ضد الاحتلال، بل ويرى أن إسرائيل دولة تمارس الأبارتيد (الفصل العنصري).

بقدر ما يمثل فيلم الطنطورة ملحمة حول الإنكار المستمر للنكبة فإنه تعبير أيضاً عن رفض إحقاق الحق وإقامة العدل. أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن ما تم الكشف عنه في الطنطورة يؤكد ما ظلوا يقولونه طوال العقود الماضية حول حقيقة ما جرى لهم في النكبة. ففي نهاية المطاف ما الطنطورة سوى واحدة من مئات القرى التي طرد منها ما يزيد عن سبعمائة ألف فلسطيني من ديارهم.

وفي النهاية، وعلى الرغم من أن الفيلم في غاية الأهمية، إلا أنه لا يشكل تحريراً ولا تصديقاً لألمهم. كل ما هنالك هو أنه جاء متأخراً أربعة وسبعين عاماً.
التعليقات (0)