هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يريد كثيرون في هذا البلد، أن نقبل الحرية الشخصية وفقا لمعيار محدد يقول إن من حقهم فعل كل ما يريدون حتى لو أدى ذلك إلى شطب هوية البلد الاجتماعية والدينية، وهندستها من جديد.
الأشهر الماضية، كانت لافتة للانتباه، إذ إن تحطيم المعيار الديني والأخلاقي والاجتماعي جار على قدم وساق، بكل هذه النشاطات التي نراها، والتي يراد منها كسر المحرمات، وإعادة إنتاج معايير العيب والحرام والممنوع وغير ذلك، وليس أدل على ذلك من كل هذه الحفلات والمؤتمرات هنا وهناك، والتي تستقطب مئات الآلاف في بلد يعاني من الفقر، فوق أن كل جواره مذبوح.
البلد الذي جنوبه الكعبة وغربه المسجد الأقصى، وتعاني شعوب جواره في الشمال والشرق من التشريد والذبح والقتل والفتن، يتم اخذه إلى مسار جديد، وكأننا ليس لنا علاقة بكل ما يجري.
كنا نظن في زمن ما أن نسخة ما من الإسلام الذي يمكن وصفه بالمتشدد، غير مقبولة، لكننا اكتشفنا أن كل النسخ يراد اخراجها، بما في ذلك النسخ التي توصف بالمعتدلة والناعمة، لصالح تشكيل المجتمع بصورة جديدة، يتم فيها إخراج قيم الدين والعيب والحلال والحرام.
كيف يمكن أن يحتمل العصب العام، رؤية مئات الآلاف ينفقون كل هذه الأموال على حفلات غنائية، وعلى نشاطات مختلفة، تفتقد الى معيار العيب بحدوده الدنيا، في الوقت الذي يعاني الناس من الفقر والحاجة والحرمان، وكأننا امام اعادة انتاج طبقي، والكل حر بماله يفعل فيه مايشاء ما دام المال في جيبه، وليذهب الفقراء والمساكين والمحتاجون إلى جهنم الحمراء؟
هذا فرز طبقي خطير من حيث دلالاته ونتائجه، لأن الفقير حين لا يجد علبة الحليب لابنه، ويشاهد من ينفق وعائلته آلاف الدنانير على حفلة لمطرب عربي، بمعية عائلته، سيصاب بغضب حارق، لا يمكن تبريره بالحرية الشخصية، ولا حرية إنفاق المال كيفما أراد صاحبه أو صاحبته.
والقصة ليست قصة الأردن وحسب، حتى لا نتمرجل على أحوال الأردن فقط، لاننا حين نرى الآلاف يأتون من فلسطين المحتلة 48 لينفقوا أموالهم، ويصرفونها على حفل لمطرب عربي في الأردن في الوقت الذي تتم استباحة المسجد الاقصى، كل يوم، في ذات التوقيت، فمن حقنا أن نسأل عن إحساس هؤلاء ومسؤوليتهم تجاه القدس، والمسجد الأقصى، وإذا ما كانوا يدركون حقا، اين صرنا، وإلى أين نذهب، وأين هي مسؤوليتهم الاخلاقية، دون أن ننكر هنا أن هناك قوى سياسية واجتماعية ودينية في فلسطين المحتلة عام 48، تقف في طليعة الذين يدافعون عن المسجد الاقصى، والقدس، ويدركون مسؤولياتهم، وواجباتهم في ظل هذه الازمات الخطيرة.
غسل الهوية الوطنية والدينية والقومية والاجتماعية، ليس حكرا على الأردن فقط، إذ إن هناك حربا يتم شنها بوسائل مختلفة، من بينها وسائل التواصل الاجتماعي، لإنتاج أجيال جديدة مفصولة عن هويتها، ومعيارها أولوياتها الشخصية التي تتم تغذيتها بتوفر المال لدى هذا أو ذاك، وهكذا يتم اختطاف العالم العربي وتفكيكه، وإخراج الدين وقيمه الاخلاقية من حياة الأفراد.
القصة هنا ليست تطرف كاتب هذه السطور، القصة ترتبط بمحاولات مسح الهوية في كل مكان، وإنتاج طبقات مختلفة، طبقات مسحوقة غير مؤثرة ومغيبة، وطبقات غنية لها اهتماماتها بعيدا عن العناوين الكبرى كالوطنية والقومية والدين والموقف من الاحتلالات، فوق الكلف الطبقية التي لها علاقة بكيفية انفاق هؤلاء لأموالهم مقارنة بفقراء لا يجدون ثمن ابسط احتياجاتهم.
لا يمكن لنا أن نعتبر ما يجري مجرد حريات شخصية، لأن الحريات الشخصية تحولت هنا إلى خنجر في ظهر الغالبية التي تتفرج، ولا تستطيع الاعتراض، ولا وقف هذه التغيرات الكاسحة، وهناك فرق كبير بين الحريات الشخصية التي تحترم الغالبية وخصوصيتها، وقضاياها، وظروفها، وتلك الحريات التي تستفز المجتمع، وتدوس على كل عناوينه وحساسياته ومعاييره وقضاياه.
إن الاعتراض هنا لا يعبر عن انغلاق، لكنه يعبر عن حساسية هائلة تجاه هذه التغيرات، وأيضا فيه إدراك مبكر للكلفة التي ستأتينا على الطريق، شئنا أم أبينا…ولننتظر أيها السادة.